منهج الرشاد لمن أراد السداد رسالة الأمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى الأمير عبدالعزيز بن سعود تأليف زعيم الأمامية في عصره الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1228هـ / 1813م حققه وقدّم له الدكتور جودت القزويني (الجزء الثالث)
صفحة 1 من اصل 1
منهج الرشاد لمن أراد السداد رسالة الأمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى الأمير عبدالعزيز بن سعود تأليف زعيم الأمامية في عصره الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1228هـ / 1813م حققه وقدّم له الدكتور جودت القزويني (الجزء الثالث)
المقصد الثامن : في الشفاعة
الشفاعة ـ في الحقيقة ـ قسم من الدعاء والرجاء، ليس من خواص الأنبياء والأوصياء، وليس لأحد على الله قبول شفاعته، وإنما ذلك من ألطافه ومننه، ولا شفاعة إلا بإذنه ورضاه، والأخبار فيها متواترة. روى محمد بن عمرو بن العاص، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من سأل الله لي الوسيلة، حلّت عليه الشفاعة، رواه مسلم (1). وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سمع الأذان ودعا بكذا، حلت له شفاعتي يوم القيامة))، رواه البخاري (2). وعن عبدالله بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه، رواه مسلم (3). وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من ميت تصلي عليه أمة من الناس يبلغون مائة، كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه، رواه مسلم (4). وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أعطيت خمساً… (وعدّ منها الشفاعة) (5). وعن إبن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أول شافع وأول مشفع في القيامة ولا فخر (6). وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أول شافع وأول مشفع. ونحوه عن أنس (7)، وأبي بن كعب (.
____________
(1) صحيح مسلم (كتاب الصلاة)، باب 11؛ أبي داود (كتاب الصلاة)، باب 36؛ سنن الترمذي (كتاب المناقب)، باب 1؛ سنن النسائي (كتاب الأذان)، باب 37؛ مسند أحمد بن حنبل (كتاب الثاني)، الباب 168. (2) البخاري (كتاب الأذان)، باب 8؛ وصحيح مسلم (كتاب الصلاة)، باب 11؛ وسنن أبي داود (كتاب الصلاة)، باب 36. (3) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب 19 (من صلى عليه أربعون شفعوا فيه)، حديث 59. (4) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب 18، حديث 58. (5) صحيح مسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة)، باب 5، حديث 3. (6) صحيح مسلم (كتاب الفضائل)، (باب ـ 2 ـ ، تفضيل نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ـ على جميع الخلق)، حديث 2278. (7) صحيح مسلم (كتاب الأيمان)، باب 330. ( سنن الدارمي (المقدمة)، الباب 8.
وعن جبير بن مطعم، عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يشفع يوم القيامة ثلاثون (وعد منهم الأنبياء). وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الشفاعة على مراتب الناس في القابلية (1). وعن عبدالله بن مالك عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أتاني آتٍ من ربي، فخيّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فأخترت الشفاعة. وعن عبدالله بن أبي الجذعاء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه والدارمي يدخل الجنة بشفاعة رجل (2) من أمتي أكثر من بني تميم، رواه الترمذي والدارمي (3). وعن أنس قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: فأين أطلبك، قال: أولاً على الصراط، قلت: فأن لم ألقك؟ قال: عند الميزان، قلت: فأن لم ألقك، قال: عند الحوض، فأني لا أخطيء هذه المواضع، رواه الترمذي (4). وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله يقول بعد فراغ الشافعين من الشفاعة: شفّعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين (5). وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يحبس المؤمنون يوم القيامة، فيقولون لو استشفعنا، فيأتون (آدم)، فيعتذر بخطيئته، ثم (إبراهيم) فيعتذر بثلاث كذبات كذبهن، ثم (موسى) فيعتذر بقتل النفس، ثم (عيسى)، فيقول: لست هناك، فيقول الله تعالى بعد أن أسجد له: إشفع تشفع… (الخبر وهو طويل) (6). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ملكاً غضب عليه، فأهبط من السماء، فجاء إلى إدريس فقال له: إشفع لي عند ربك، فدعا له، فأذن له في الصعود. وفيه دلالة على الشفاعة في الدنيا. وستجيء في باب زيارة القبور أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من زارني كنت له شفيعاً)) (7).
____________
(1) سنن ابن ماجه: 2/1443. (2) في المطبوع: ((بشفاعتي رجال)). (3) الترمذي: 4/541. (4) الترمذي (باب صفة القيامة): 4/537. (5) الترمذي: 4/541. (6) الترمذي: 4/537. (7) سنن البيهقي: 5/245.
وبيان الحال: أن (الشفاعة) إن كانت من قبيل الدعاء، فيرجع طلبها إلى إلتماس الدعاء من الأنبياء والأولياء، فتكون عبارة عن دعاء مخصوص لنجاة الغير، أو قضاء حاجته في أمور الدنيا والآخرة، فلا كلام ولا بحث في جواز طلبها من كل أحد، فهي كما لو سألت إخوانك الدعاء. ويؤيد ذلك انه لما سئل إدريس عليه السلام الشفاعة دعا. ولا فرق بين الأحياء والأموات، فأنّا سنبين ـ إن شاء الله ـ تواتر الأخبار في أن الأموات يسمعون وينطقون، لكن الناس لا يسمعون كلامهم. فالشفاعة بهذا المعنى لا غضاضة في طلبها، إذ لسنا في ذلك بمنزلة من قالوا لا طاقة لنا بعبادة الله، ونحن نعبد الأصنام، وهم يوصلوننا الى الله. وإن أريد بالشفاعة منصب أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأوليائه، فيدفعون بالأذن العام عن الناس، بمعنى أن الله أذن إذناً عاماً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في إنقاذ بعض أهل العذاب من العذاب يوم يقوم الحساب، فبهذا المعنى تكون مخصوصةً في الآخرة. ولا ريب أن المستشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأولياء في دار الدنيا، يريد المعنى الأول. فليت شعري ما الذي ينكر من طلب الشفاعة، أمن جهة خطاب الموتى فلذلك لا يوجب كفراً ولا إشراكاً، لو كان خطأ، فكيف لو كان صواباً، أو من جهة إسناد الأمر إلى غير الله سبحانه، وهذا أعجب من السابق، فأن الداعي والساعي في حاجة أحد إلى مولاه لا يرتفع عن درجة العبودية، ولاسيما إذا لم يحدث شيئاً إلا عن إذنه. ومن البديهية (1) أن العبيد والخدام القائمين بشرائط العبودية والخدمة مع الأذن يشفعون عند مواليهم في قضاء حوائج الناس، ولا يخرجهم ذلك عن العبودية والخدمة، بل هذا نوع من العبودية. وفي أحاديث الشفاعة ما يدل على عموم الشفاعة في دفع المضار الدنيوية والأخروية. وقد نقل عن الصحابة بطرق معتبرة أن الصحابة كانوا يلجأون إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويندبونه في الأستسقاء ورفع الشدائد والأغراض الدنيوية. روى البيهقي بطريق صحيح عن مالك الدار خازن عمر رضي الله عنه أنه أصاب الناس قحط، فذهب رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إستسق لأمّتك فقد هلكوا، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقال له: قل لعمر: قد سقوا (2).
____________
(1) في النسخة المطبوعة: ((الأمور البديهيّة)). (2) البيهقي: 3/344.
وقد روي أنّ من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نومه فكأنما رآه في يقظته، لأن الشيطان لا يتمثل به (1). وروى البيهقي بطريق صحيح أن رجلاً في أيام عمر رضي الله عنه جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله سلم، فقال: يا محمد إستسق لأمتك (2). وروى الطبراني وابن المقري أنهم كانوا جياعاً، فجاؤا إلى قبر النبي، فقالوا: يا رسول الله الجوع، فاشبعوا. والغرض أن ذلك ظاهر بين الصحابة والسلف، لا يتناكرونه أبداً، وحيث كان لا يزيد على سؤال الدعاء، واتضح في البحث الآتي أن الأنبياء والأولياء أحياء، لا يبقى كلام أصلاً.
الخاتمة
وأما الخاتمة، فتشتمل على أبواب:
الباب الأول: في حياة الأموات بعد موتهم
وفيه فصول:
الفصل الأول : في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته
وإنه يسمع الكلام ويرد الجواب، كما في حياته غير أن الله حبس سمع الناس إلاّ قليلاً من الخواص، ولا بعد في ذلك بعد الأقرار بعموم قدرة الجبار، فأن من أودع تلك النطفة روح الإنسان، قادر أن يودعها في أي محل كان. ولا ينافي ذلك إطلاق إسم الموت عليه، وأن الحياة إنما هي وقت البعث، لان المراد أن عود تلك الأجسام على الحال السابق والكيفية السابقة، إنما يكون في ذلك الوقت، وإن
____________
(1) صحيح مسلم (كتاب الرؤيا)، باب 1 حديث 11. (2) البيهقي: 3/350.
ظهور ذلك للناظرين، إنما يكون في ذلك الحين، ولابد أن تتلقّى ما ورد عن النبي الكريم، بأشد القبول والتسليم. روي عن أمّ سلمة رضى الله عنه، قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتراب على شيبته، فسألته، فقال: شهدت قتل الحسين عليه السلام. وعن ابن عباس أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وفي يده قاروة، فقلت وما هذه. فقال هذا دم الحسين عليه السلام (1). وقال المبارزي: نبينا حي بعد وفاته. وقال شيخ الشافعي (2): نبينا حي بعد وفاته، فأنه يستبشر بطاعات أمته، ويحزن من معاصيهم، وتبلغه صلاة من يصلّي عليه. وعن علي عليه السلام أنّ أعرابيا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إستغفر لي، فنودي من داخل القبر ثلاث مرات: قد غفر الله لك (3). وروى أبو داود في مسنده، عن أبي هريرة، مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ما من أحدٍ يسلّم عليّ إلاّ ردّ الله روحي حتى أردّ عليه. وذكره إبن قدامة من رواية أحمد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من أحد يسلّم عليّ عند قبري إلاّ ردّ الله عليّ روحي. وذكره بعض أكابر مشايخ البخاري. وفي خبر النسائي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض، يبلغونني من أمتي السلام. فعلى هذا لا فرق بين السلام من قرب، أو بعد. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من صلّى عليّ عند قبري سمعته (4). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من صلى عليّ عند قبري، وكل الله به
____________
(1) تاريخ ابن عساكر، ص263. (2) عبدالقاهر بن طاهر البغدادي الأسفراييني، ولد ونشأ في بغداد، ورحل إلى خراسان واستقرّ في نيسابور، ومات في أسفرائين. له مؤلفات كثيرة. (3) كنز العمال: 1/506. (4) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 1/488، الباب السادس في الصلاة عليه وعلى آله، حديث 2197.
ملكاً يبلغني (1). وروى إبن أوس مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فأن صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: أو كيف تعرض عليك وأنت رميم؟! فقال: إنّ الله حرّم على الأرض لحوم الأنبياء (2). وهذا يعم الأنبياء (صلى الله عليهم). وروى الحافظ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي (3). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله وكّل ملكاً يسمعني أقوال الخلائق، يقوم على قبري، فلا يصلّي عليّ أحد إلاّ قال: يا محمّد (فلان) بن (فلان) يصلّي عليك، صلّوا عليّ حيثما كنتم، فأن صلاتكم تبلغني. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أعمالكم تعرض عليّ (4). والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى، وفيها دلالة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب في مماته كما يخاطب في حياته، بل يظهر من بعض الروايات (5) أنّ كلامه يسمعه بعض الخواص. أخرج أبو نعيم في دلائل النبوة، عن سعيد بن المسيب، قال: لقد كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فما يأتي وقت صلاةٍ إلاّ سمعت الأذآن من القبر. وأخرج ابن سعد في الطبقات، عن سعيد بن المسيب أنه كان يلازم المسجد أيام الحرّة، فإذا جاء الصبح سمع أذاناً من القبر الشريف (6). وأخرج زبير بن بكار (7) في أخبار المدينة، عن سعيد بن المسيب، قال: لم أزل أسمع الأذان والأقامة من قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام الحرّة، حتى عاد الناس. وأخرج الدارمي في مسنده، عن مروان، عن سعيد بن عبدالعزيز أنّه كان لا يعرف وقت الصلاة إلاّ بهمهمةٍ تخرج من القبر (.
____________
(1) كنز العمال، حديث 2196. (2) كنز العمال: ج1، الباب السادس، حديث 2141. (3) كنز العمال: ج1، الباب السادس، حديث 2242. (4) صحيح مسلم (كتاب المساجد)، باب 57؛ ومسند أحمد بن حنبل، الكتاب الخامس. (5) في النسخة المطبوعة: الأخبار. (6) الطبقات الكبرى: 5/132. (7) الزبير بن بكّار، من أهل المدينة، توفي سنة 256هـ / 870م عن (84) عاماً. له مؤلفات في الأنساب والتاريخ. ( سنن الدارمي: 1/56.
الفصل الثاني : في حياة سائر الشهداء والأنبياء
قد سبق أن الارض لا تأكل لحومهم. قال البيهقي في كتاب الأعتقاد (1): إنّ الأنبياء بعدما قبضوا رّدت إليهم أرواحهم، فهم أحياء كالشهداء. وقال القرطبي في التذكرة (2): الموت ليس عدماً محضاً، يدل على ذلك أن الشهداء أحياء، فالأنبياء أولى، وقد صحّ أنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجتمع بالأنبياء ليلة الأسراء في بيت المقدس وفي السماء. وقال الأستاذ أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعي: إنّ الأنبياء لا تبلى أجسادهم، ولا تأكل الأرض منهم شيئاً، وقد إلتقى نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مع إبراهيم، وموسى بن عمران. وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنّه مرّ بقتلى بدر فكلّمهم، فقال له أصحابه: كيف تكلّم أجساداً لا أرواح فيها؟! فقال: لستم اسمع منهم لكنهم لا يتكلمون. وعن قتيبة وأبي الفضل، عن إبن عباس أنّ الحواريين قالوا لعيسى: أحي لنا يحيى بن زكريا، حتى ننظر إلى وجهه، فخرج معهم وأحياه، وإذا نصف شعر رأسه ابيض، وقد كان أسوداً فسألوه، فقال: لما نوديت زعمت أنها القيامة، فقال عيسى: أتريد أن أسأل الله أن يردك إلى الدنيا؟ فقال: إن مرارة الموت لم تخرج من حلقي بعد. وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه مرّ بابراهيم يصلّي، وبموسى يصلّي. وفي حديث المعراج أنه مرّ بكثير من الأنبياء يصلون. وقال الحافظ شيخ السنة أبو بكر البيهقي في الإعتقاد: إن الأنبياء تردّ إليهم أرواحهم بعدما يقبضون، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة منهم، وصلّوا خلفه، وقد أخبر هو عن ذلك، وخبره صدق، أنّ صلاتنا تعرض عليه، وانّ
____________
(1) الأعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للحافظ البيهقي الشافعي، طبع في بيروت سنة 1988م. (2) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة لشمس الدين محمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة 671هـ، وهو مطبوع بالقاهرة سنة 1981م ضمن جزأين.
الأرض لا تأكل من لحمه. وعن الشيخ عفيف الدين أنّ الأولياء من جملة خصائصهم رؤيا الأنبياء. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: إنّ حياة الأنبياء والشهداء في القبور كحياتهم في الدنيا، ويدل عليه صلاة موسى وجماعة من الأنبياء ليلة الأسراء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الثقات عن أنس مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الأنبياء أحياء في قبورهم. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: مررت بقبر موسى بن عمران فرأيته يصلّي (1). وقال الله تعالى في حق من قتلوا في سبيل الله: ((أحياء عند ربّهم يرزقون)) (2) إلى غير ذلك من الأخبار.
الفصل الثالث : في حياة سائر الموتى
روى إبن عباس مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من أحدٍ يمر بقبر أخيه المؤمن فيسلم عليه إلاّ عرفه، وردّ عليه السلام. وفي رواية: ما من أحدٍ يمر بقبر رجلٍ يعرفه إلاّ عرفه وردّ عليه السلام (3). ونقل أبو عبدالله البخاري أنّ الشهداء وسائر المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلّم عليهم، عرفوه وردوا عليه السلام. وروى الثعلبي في تفسيره، وابن المغازلي الواسطي في المناقب: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه لما حملهم البساط، وصلوا إلى موضع أهل (الكهف)، فقال: سلّموا عليهم، فسلّموا عليهم، ولم يردوا، فسلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله (4). وأخرج الشيخ ابن حيارة في كتاب (الوصايا)، عن قيس، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من
____________
(1) تراجع هذه الأحاديث في كنز العمال، الفصل الثالث في زيارة القبور، المجلد الخامس. (2) القرآن الكريم: 3/169 (سورة آل عمران). (3) كنز العمال: 5/646. (4) ابن المغازلي، مناقب علي بن أبي طالب، ص2.
لم يوص، لم يؤذن له في الكلام مع الموتى، قيل، يا رسول الله الموتى يتكلمون، فقال: نعم ويتزاورون. وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى جعفرا يطير في الجنة. ونقل أبو بكر محمد بن عبدالله الشافعي أن عيسى لما دفن مريم، قال: السلام عليك يا أماه، فأجابته من جوف القبر: وعليك السلام حبيبي، وقرة عيني، فقال لها: كيف وجدت طعم الموت؟ فقالت: والذي بعثك بالحقّ ما ذهبت مرارة الموت من حلقي، ولا خشونته من لساني. وروى الحاكم عن سالم بن أبي حفصة قال: توفي أخ لي، فوضعته في القبر، وسوّيت عليه التراب، ثم وضعت أذني على لحده، فسمعت قائلاً يقول له: من ربّك، فسمعت أخي يقول بصوت ضعيف: ربي الله، فقال له: وما دينك، فسمعت أخي يقول بصوتٍ ضعيف: ديني الأسلام، فسمعته يقول له: ومن نبيّك؟ فسمعته يقول بصوت ضعيف: محمّد نبيّي، فسمعته يقول له: نم نوم العروس، وسمعت الملك الآخر يقول له أبشر بروحٍ وريحان، وربّ غير غضبان (1). وفي الأخبار، عن عمر بن الخطاب أنه قال: ما من ميت يموت، يوضع على سريره، فيخطى ثلاث خطوات، إلاّ وينادى بنداء يسمعه ما شاء الله من الخلائق غير الثقلين. فيقول: يا إخوتاه، يا خدماه، يا حملة نعشاه، لا تغرّنكم الدنيا كما غرّتني، ولا يلعبن بكم الزمان كما لعب بي، خلّفت ما جمعت لورثتي، ولم يحملوا من خطيئتي شيئاً، والديّان يحاسبني، وأنتم تشيعوون جنازتي، ثم تدعونني في لحدي. وزيد في آخر: ثم تسلمونني الى منكر ونكير، واندامتاه واندامتاه، واندامتاه (2). وعن الفقيه الزاهد إسماعيل بن الحسن، عن عمر بن الخطاب أنه دخل المقابر، فنادى يا أهل المقابر الأموال قد قسّمت، والدور قد سكنت، والأزواج قد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فأخبرونا ما عندكم، قال: فهتف به هاتف، وهو ينادي ويقول: يابن الخطاب وجدنا ما عملنا ربحاً، وما خلفنا خسراناً، والجبار سألنا عن جميع ما فعلنا، ثم سكت. وعن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يمرّ أحد بالمقابر إلاّ ويناديه أهل القبور: يا
____________
(1) كنز العمال: 15/605. (2) كنز العمال: 1/596.
غافلاً لو علمت بما نحن فيه لذاب لحمك وجسمك، كما يذوب الثلج في النار (1). وعن الضحاك، عن إبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الموتى ينادون في كل يوم ثلاث مرات من قبورهم: يا أهل الديار عجلوا عجلوا، فأنما نحن محبوسون من أجلكم، الرحيل الرحيل، لا تحبسوا إخوانكم، خرّبوا ما بنيتم، وأتركوا ما جمعتم، نورتم البيوت، وأظلمتم القبور، وبنيتم البيوت، ونسيتم القبور، وعمرتم البيوت، وخربتم القبور، ووسعتم البيوت، وضيقتم القبور، (وذكروا غير ذلك) (2). وعن أبي عبدالله محمد بن عمر، يروي عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من يوم يمضي إلا وملك يهتف: يا أهل القبور من تغبطون اليوم فيقولون: نغبط أهل المساجد، يصلّون في مساجدهم، ويصومون ويصدّقون، ولا نقدر نصلي ونصوم ونتصدق. وعن محمد بن أبي عبدالله بن الفضل، عن محمد بن كعب، قال: مرّ عيسى على قبر، فرأى فيه عذابا شديداً، فدعا الله حتى أحياه، فقال له عيسى: فلم تعذّب. قال: كنت جالسا في سوق (مصر)، وقد أكلت شيئا، فأخذت عودةً من حزمة شوك لأخلل أسناني بها، ومت منذ أربعة آلاف سنة وأنا في عذابها، ثم قال: يا روح الله منذ أربعة آلاف سنة ومرارة الموت باقية في حلقي. فقال عيسى: اللّهم يسّر علينا سكرات الموت. وعن وهب بن منبه أن عيسى عليه السلام مرّ على نهرٍ فيه ماء عذب، وحوله خابية (3)، كلما يوضع فيها من ذلك الماء يصير مالحاً، فقال: إلهي ما خبر هذا الماء المالح؟! فأذن الله للخابية بالكلام، فقالت: إني كنت آدمياً، فبقيت في قبري ثلاثمائة سنة، ثم جاء لبّان، فضرب ترابي لبناً، وبنيت في قصر ثلاثمائة سنة، ثم خرب القصر، فبقيت تراباً مائتي سنة، ثم جاء شخص فجعلني (حبّاً)، ووضعني سقايةً على شاطىء هذا النهر من مائة سنة وكل ما يجعل فيّ يكون مالحاً، لما في من مرارة نزع الروح، وأنا معذب منذ مت، لأني أخذت إبرةً من جاري، وما رددتها حتى متّ. فما أدري أنّ عذابي أشد أم مرارة الموت، فقال عيسى: اللّهم يسّر عليّ الموت، ونجني من عذاب القبر… (الحديث). وقد ذكرنا من مضمونه محل الحاجة. وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أشد الأحوال على الميت حين يدخل (الغسال) داره ليغسله، فيخرج خواتم الشبان من اصابعهم، وينزع قميص العروس من بدنها، ويرفع
____________
(1) في النسخة المطبوعة: الملح بالماء. (2) كنز العمال: 15/626. (3) الخابية: الجرّة الكبيرة المستعملة لحفظ الماء.
عمائم المشايخ عن رؤوسهم. فعند ذلك يقول بصوت يسمع الخلائق غير الثقلين: يا غسال بالله عليك إنزع ثيابي برفق، فأني الساعة استرحت من مخاليب ملك الموت، فأذا صب عليه الماء صاح كذلك. فإذا رفع عن المغتسل، وشدّ مواضع قدميه بالكفن، يقول: بالله عليك لا تشد راس كفني ليرى وجهي أهلي وأولادي وعروسي التي كنت أحبّها، وينظر إلى وجهي أقربائي، وأحبائي وإخواني، وجيراني، ورفقائي، فأن هذه آخر رؤياي. فإذا خرج من الدار، نادى بالله عليكم يا حملة نعشي لا تعجّلوا بي، حتى أودّع داري التي بنيتها، وزيّنتها ونقشتها بأنواع النقوش، وأهلي ومالي وأولادي، فأن هذا خروج لا مردّ بعده إلى يوم القيامة. فإذا رفعت الجنازة، نادى يا حملة نعشي بالله عليكم لا تعجّلوا بي، حتى أسمع أصوات أولادي الذين يعولون خلف جنازتي، وعروسي التي تبكي عليّ، ووالدي الذي تقوّس ظهره لموتي، ووالدتي التي شدّت وسطها بالمنديل لمفارقتي، وقد نشرت شعرها، وضربت صدرها، وتقوّس ظهرها، وأبيضّت عيناها لفقدي. فإذا صلّي على جنازته، ورفع من المصلى،ورجع بعض أصدقائه، يقول: يا إخوتاه كنت أعلم أنّ الميت ينساه الأحياء، لكن لا بهذه السرعة، رجعتم قبل أن تدفنوني، ونسيتموني بهذه السرعة، وجسمي بعد بين أظهركم. فإذا وضع في لحده، ووضع عليه التراب، ينادي واورثتاه، تركت لكم الكثير، فلا تنسوني، وتصدّقوا عني على فقرائكم، ولو بكسرة خبز محترق، وعلمتكم القرآن والأدب، فلا تنسوني من الدعاء، فأني صرت محتاجاً، كفقرائكم على أبوابكم، ومحتاجاً إلى دعائكم، كصاحب حاجتكم الى ساداتكم (1). ومما يدل على بقاء حياتهم في قبورهم، ما دلّ على أنّ الميّت بعدما يسأل، يفتح له باب إلى الجنة، إن كان من أهل الخير، أو إلى النار إن كان من أهل الشر، وبقاء اللذة والألم ظاهر في بقاء أثر الحياة. وعن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات أحدكم، عرض عليه مقعده بالغدوة والعشيّ، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الميت يسأل في قبره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأن
____________
(1) تراجع هذه الأحاديث في الجزء الخامس عشر من كنز العمال في الباب الأول (في ذكر الموت وفضائله)، حديث 42094 حتى حديث 43011 (من ص548 حتى ص758).
أجاب بالحق قيل له: نم نومة العروس، وإلاّ فتح له باب إلى قبره يكون معذباً إلى يوم القيامة (1). وعن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يأتيه ملكان يجلسانه، ثم ذكر أنهما يسألانه، فأن أجاب بحق، فتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، وإلاّ يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها. الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على أنهم في قبورهم يتلذذون و يتألمون، وهذا من توابع الحياة ولوازمها. وكيف كان فقد بلغت هذه الأخبار فوق التواتر، وبعد عموم قدرة الفاعل المختار، لا بعد ولا غرابة في مداليلها. وما دلّ من الكتاب والسنة على أنّ الأحياء يكون عند النفخ في (الصور)، فقد بيّنا أنّ المراد: إمّا الحياة على النحو المعهود من تلك الأشخاص الخاصة بعينها، أو يراد أنّه يوم البروز والظهور على عيون الأشهاد. وإذا تبيّن بهذه الأخبار المتواترة، أنهم يسمعون ويعقلون ويعرفون من يخاطبهم، صحّ لنا أن نخاطبهم مخاطبة الأحياء فنلتمس دعاءهم، ونقسم عليهم بالأقسام في أن يكونوا شفعاء لنا في الدنيا وفي يوم القيام، لأنّ الشفاعة أظهر فرديها أنها دعاء خاص، واختصاص الخواص بها باعتبار قبولها. فلو قال قائل لنبي، أو وصي، أو عبد صالح: إشفع لي، أو إدع لي، أو أغثني، أو أعنّي (أي بدعائك)، أو قال: إقض لي حاجتي، أو إرزقني مالاً، وأدفع الضرر عني، ونحو ذلك ولا يريد سوى التوسط بالدعاء وسؤال الله، لم يكن عليه شيء. وقد وقع كثير من ذلك في كلام الصحابة والتابعين، بل ربّما كان هذا التعبير أولى، لدلالته على قرب منزلة العبد عند مولاه واحترامه، فتكون شهادة له بنبوته، وقرب منزلته. وليس على من قال للعبد المقرب، أو إلى الخادم المقرب: إقض حاجتي، (بمعنى إسع لي في قضاءها عند مولاك)، بأس، بل هو أنسب في التواضع الى المولى. وأما من قال مثل ذلك معتقداً أنّ الأنبياء والأوصياء بأيديهم الأمر أصالةً، يفعلون ما يشاؤون، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
____________
(1) سنن الترمذي (كتاب الجنائز)، باب 70 ـ ما جاء في عذاب القبر حديث 1071.
وإني قد طفت بشطر من بلاد المسلمين، وخالطت كثيراً منهم منذ سنين، فلم أر أحداً بعتقد أنّ في الوجود فاعلاً مختاراً سوى الفاعل المختار العزيز الجبار تبارك وتعالى، وذلك مراد (العوام) في خطاباتهم، فضلاً عن العلماء الأعلام، إلاّ أنهم لا يمكنهم كشف الحال، وإن كان مقصدهم ذلك على الأجمال. نسأل الله وإياكم طريق السداد والنجاة من أهوال يوم المعاد.
الباب الثاني: في الزيارات
وفيه فصلان:
الفصل الأول : في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
روى الدارقطني في السنن وغيرها، والبيهقي، وغيرهما من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبدالله العمري، عن نافع، عن إبن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من زار قبري وجبت له شفاعتي. وعن نافع، عن سالم، عن ابن عمر مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من جاءني زائراً ليس له حاجة إلاّ زيارتي، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة. وعن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من حجّ وزار قبري بعد وفاتي، كان كمن زارني في حياتي. وروي عن عائشة أيضا، وعن نافع، عن إبن عمر، عن النبي، قال: من زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً. وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من حجّ فلم يزرني، فقد جفاني (1). وعن أبي هريرة مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من زارني بعد موتي، فكأنما زارني حياً (2).
____________
(1) تراجع هذه الأحاديث في سنن البيهقي: 5 (كتاب الحج)، باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (2) كنز العمال (باب زيارة قبر النبي)، المجلد الخامس، حديث 12382.
وعن أنس مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال من زارني في المدينة، كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة (1). وعن أنس مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من زارني ميّتاً كمن زارني حياً، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة. وعن إبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من زارني في مماتي، كان كمن زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني. وعن علي عليه السلام مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من زار قبري بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني. وعن إبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من حج ّ وقصدني في مسجدي، كانت له حجتان مبرورتان. وروى إبن عساكر، عن علي عليه السلام، قال من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن بكر بن عبدالله مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من أتى المدينة زائراً لي، وجبت له الجنة. وعن كعب الأحبار أنّ عمر لمّا فتح بيت المقدس، قال لي: هل لك أن تسير معي الى المدينة نزور قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذهبت معه، فلمّا دخل بدأ بالمسجد، وسلّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الموطأ عن إبن عمر كان يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيسلّم عليه، وعلى أبي بكر، وعمر. وسئل نافع هل كان ابن عمر يسلّم على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقال: رأيته مائة مرّة أو أكثر يسلّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أبي بكر، وعمر. وعن إبن عمر: أنّ سنّة السلام من قبل القبلة. ونقل الدارقطني، عن علي عليه السلام أنه دخل المسجد فسلم على القبر. وروي عن آل الخطاب، وعن بعض الحفّاظ زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
____________
(1) كنز العمال (باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم) المجلد 15، حديث 42584.
وكيف كان، فالروايات في استحباب زيارته وشفاعته لزوّاره، داخلة في قسم المتواتر، وعمل الصحابة، والتابعين، وأهل البيت أجمعين على ذلك. قال عياض: زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنّة، أجمع عليها المسلمون. وروى غيره إجماع المسلمين قولاً وفعلاً على استحباب زيارته، وصريح بعضها (1) أن شدّ الرحال إليها لا مانع منه. وفيما دل على استحباب التعظيم، وانّ حرمة الاموات كحرمة الأحياء، كفاية.
الفصل الثاني: في زيارة باقي القبور
قد مرّ في الأخبار الماضية زيارة الصحابة قبري الشيخين. وروى بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (2). ولعل السر ـ والله أعلم ـ أنه في مبدأ الأسلام كانت زيارة القبور وتذكار الموتى والقتلى، باعثاً على الجبن عن الجهاد، حتى إذا قوي الأسلام أمرهم بها. ونحو ذلك في خبر آخر. وعن أبي هريرة، أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم زار قبر أمّه، ولم يستغفر لها، قال: أمرت بالزيارة، ونهيت عن الأستغفار، فزوروا القبور، فأنّها تذكر الموت (3). وعن بريدة أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج إلى المقابر، قال: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين))، رواه مسلم (4). وعن عائشة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى البقيع آخر الليل، فيقول: السلام عليكم… (الخبر)، رواه مسلم (5).
____________
(1) في النسخة المطبوعة: وصرّح بعضهم. (2) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، المجلد الثاني، باب 36، حديث106؛ وسنن ابن ماجه (باب ما جاء في زيارة القبور)، باب 47، حديث 1571. (3) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب استئذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربّه في زيارة قبر أمّه، حديث 108. (4) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب ما يقال عند دخول القبور، حديث 104. (5) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب ما يقال عند دخول القبور، حديث 102.
وكيف كان فالأخبار متظافرة على زيارة القبور، ولا حاجة لنقل جميعها، وفيما ورد من أنّ حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً دلالة على ذلك، وزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة لقبور الشهداء أوضح من الشمس في رابعة النهار.
الباب الثالث : في التبرك بالقبور ونحوها
إختلف العلماء من أهل السنة والجماعة في جواز التبرك بالقبور، فمنهم: من أجازه على كراهة. قال النووي: لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر به. قال: ويكره مسّه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه، كما لو حضر في حياته. وكلامه ظاهر في أنّ المس أبعد من التعظيم، وشبهة العبودية. وذكر إبن عساكر في (تحفه)، عن ابن عمر أنه كان يكره مس قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويظهر من بعضهم ندبه وأستحبابه. نقل عبدالله بن أحمد بن حنبل في كتاب العلل والسؤالات، قال: سألت أبي عن الرجل يمس منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يتبرك بمسه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله تعالى، فقال: لا بأس به. وعن إسماعيل أن إبن المنكدر (1) يصيبه الصمّات، فكان يقوم ويضع خدّه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعوتب في ذلك، فقال: يستشفى بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والأستشفاء أعظم من التبرك. ونقل عن إبن أبي الضيف، والمحب الطبري، جواز تقبيل قبور الصالحين، وظاهره الندب. وفي رواية عن إبن حنبل أني لا أعرف التمسح بالقبر، أما المنبر فنعم، لما روي أن إبن عمر كان يفعله. ونقل عن مالك التبرك بالمنبر.
____________
(1) محمد بن المنكدر القرشي التيمي أحد الأئمة التابعين، توفي سنة 130هـ / 748م.
وروي عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حينما أراد الخروج إلى العراق، جاء الى المنبر، وتمسّح به. وقال السبكي: منع التمسح بالقبر ليس مما قام الأجماع عليه. وأستدل بما رواه يحيى بن الحسن، عن عمر بن خالد، عن أبي نباته، عن كثير بن يزيد، عن المطلب بن عبدالله، قال: أقبل مروان بن الحكم، فإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته وقال: ما تصنع؟! فقال: إني لم آت الحجر ولا اللبن، إنما جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وذكر رواية أحمد، قال: وكان الرجل أبا أيوب الأنصاري. ونقل هذه الرواية أحمد، وزاد فيها: أنه قال: سمعت رسول الله يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن إبكوا عليه إذا وليه غير أهله. وعن أبي الدرداء أن بلالاً رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقال له: ما هذه الجفوة يا بلال، أما لك أن تزورني؟! فانتبه حزينا خائفاً، فركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يبكي عنده، ويمرّغ وجهه عليه، إلى أن ذكر حضور الحسنين وبكاء أهل المدينة، وأذان بلال، قال: فما رئي أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك اليوم. وذكر إبن حملة أن (بلالاً) وضع خديه على القبر، وأن ابن عمر كان يضع يده اليمنى عليه. ونقل عن مالك، والزعفراني تحريمه، وهو الظاهر من كلام أنس بن مالك، حيث قال: ما كنا نعرفه. وكيف كان كيف يدّعى المسّ والتبرك عبادة مع أنه أبعد من التعظيم، وقضية الذم على عبادة يعوق ويغوث ونسر، ليس من جهة التبرك، كما نصّ عليه المفسرون (1)، حيث قالوا: تبركت الآباء فانتهى الأمر إلى عبادة الأبناء، فوقع الذم على الأبناء. وتحقيق الحال: أنّ التقبيل على أنحاء: منها: تقبيل المحبة، لأنّ من أحبّ شخصاً أحبّ مكانه، وثيابه، وداره، ومزاره، فلا يكون تقبيل الأعتاب، والجدران، والأبواب إلاّ كتقبيل بعض ثياب الأحباب، فهو من قبيل قوله:
____________
(1) في تفسير الآية (23) من سورة نوح.
أمرّ على الديار ديار (ليلى) * أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي * ولكن حبّ من سكن الديارا
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تقبيل اليد، فنهى عن ذلك، إلاّ في تقبيل يد الزوجة للشهوة، ويد الولد للمحبة. وعن علي عليه السلام انه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح خيبر: لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت اليوم فيك مقالاً، لا تمر على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك، وفضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أنّك مني وأنا منك (1). وروي عن علي عليه السلام أنه قال: قدم علينا أعرابي بعد دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على القبر، وحثا من ترابه على رأسه. وعلى كل حال فالذي يظهر بعد تحقيق النظر أنّ التقبيل للمحبة من قبيل تقبيل الوالد لولده (2)، والأرحام بعضهم لبعض فلو قبّل بعضهم جدران بعض، أو ثياب بعض، أو مكان بعض، حباً وإرادة، لا تعظيماً ولا عبادة، فليس فيه بأس. وأما قصد التعظيم والأكرام، فليس فيه خروج عن ملة الأسلام، قصارى ما هناك أنه عدّه بعض العلماء من الآثام، فليس على الفاعل عن دليل في الرد عليه من سبيل. وأما من فعل مشرعاً فهو عاصٍ لربه، حتى يتوب عن ذنبه. ولقد نقل عن بعض أمراء دار السلام بغداد أنه وشى بعض الوشاة على جماعة أنهم يقبّلون أعتاب الأولياء، فقال: سبحان الله في كل يومٍ تقبلون جلد الميتة ((يعني الفروة التي هو لا بسها))، ولا تقبّلون أعتاب أبواب الأولياء. وعلى أي تقدير، فالغرض إنما هو نفي (التكفير). ونسبة فعل هؤلاء إلى فعل عبدة الأصنام خروج عن الأنصاف في هذا المقام، لأنّ الذاهبين إلى الجواز منا إنما أخذوا عن الدليل، لا لمجرد الأختراع والأبتداع، فأن اشتبهوا عذروا وأجروا. فمن قبّل الحجر الاسود، والركن اليمانيّ، أو باقي الأركان، أو مسها، أو لزم المستجار، فقد تبرك بتلك الأحجار، لأنها بأمرٍ من العزيز الجبار، ولو أخطأ الأمر، كان
____________
(1) نهج البلاغة: 2/449. (2) في النسخة المطبوعة: ((الوالدة لولدها)).
مثاباً. ومن طاف بين (المروتين)، عملاً بالكتاب وسنة سيد الثقلين، لم يكن عليه مؤاخذة في البين. وطوائف المسلمين بأجمعهم لا يتبرك منهم أحد بقبر أو غيره، إلاّ أنه بزعم أنه مأمور من الله، ومن تبرّك قاصداً للعبادة، فهو خارج عن ربقة المسلمين. ومن البين المعلوم أنه لو أمر (المولى) عبده بالتبرك بثياب عبده المقرب، أو مكانه، أو قبره، فأمتثل، كان مطيعاً لمولاه، لا للعبد الذي قرّبه وأدناه. فأقسمت عليك بمن جمع بيننا في كلمة الأسلام، وألّف بين قلوبنا في هذه الأيام، أن تنفرد عن الأصحاب إذا ورد عليك (الكتاب)، وترى نفسك كأنّك الآن خلقت من تراب، وتبذل الجهد في تمييز الخطأ من الصواب، فأنّه ـ والله (1) ـ لا حاجة بنا إلاّ إليه، ولا إعتماد لنا إلاّ عليه. وليس لنا مع الأنبياء والأولياء قرابة نسب، ولا لهم علينا ما نخاف منه الطلب، وإنما عظّمناهم لأمر الله، وأخذنا بأقوالهم عملاً بقول رسول الله، وما أبرّء نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي. وكشف الحال على وجه يدفع ما قيل أو يقال: إنّ التواضع والتبرك والأكرام والأحترام لما هو معظّم عند الملك العلام من تعظيم الله، كما أن قرآنه وبيته، ومساجده لا نتسابها إليه، إحترام له تبارك وتعالى. فمن عظّم عيسى ومريم وعزير لعبوديتهم، وقرب منزلتهم، فهو معظّم لله. كما أن من عظم بيت السلطان وعبيده وغلمانه وأتباعه من حيث التبعية، يكون معظماً للسلطان. وأما من (وجدها) قابلة للتعظيم، وأهلاً له من حيث ذاتها لا لأجل العبودية والتابعية، وإن كان غرضه التقريب زلفى، إنما يكون معظّما لها، لا للسلطان. وإني منذ ثلاثين حجة أنظر في حال طوائف المسلمين، محقيهم ومبطليهم، فلم أجد أحداً يعظم كتاباً، أو نبيّاً، أو مكاناً، أو عبداً صالحاً من غير قصد قربة من الله، أو انتسابه إليه، فقد ظهر أن هذا كله من باب طاعة الله وتعظيمه. وأمّا عبدة الأصنام والعباد الصالحين، فأنما أرادوا عبادتهم حق العبادة، كأن يصلّوا
(1) في النسخة المطبوعة: فأنا وأنت.
لهم، ويصوموا ويكون ذلك لأستحقاقهم بربوبيتهم في أنفسهم، أو للتقريب زلفى، فهي عبادة حقيقية على الوجهين. وعلى كل من الأحتمالين على أني ذكرت مكرراً أنهم عاندوا الرسل، وكذبوهم، واستهزؤا بهم، وقالوا أيضا: لا طاقة لنا بعبادة الله، وإنما نعبد الأصنام لأنّ عبادتهم مقدورة لنا، وهم يقربونا إلى الله زلفى، ولقد نقلت روايةً مشتملةً على ذلك المعنى في مقام آخر. فالفرق بين الأمرين أوضح مما يرى رأي العين. فبحق من شقّ لك السمع والبصر، وسلّطك على طوائف من الأعراب والحضر، أن توجّه ذهنك الوقّاد، وفكرك النقّاد، صافياً عن ملاحظة العصبية والعناد، وتجعل مناظرتنا كأنّها حين حلولنا في المقابر، وانصرفنا عن مرارة الدنيا، طالبين للنعيم الفاخر، وحضورنا يوم فصل القضاء بين يدي جبار الأرض والسماء، وكأنّ الملائكة بيننا شهود، وقد حضرنا في اليوم الموعود، وقد فارقنا الأموال والأولاد، وانقطعنا الى ربّ العباد. اللهم إجمع بيننا بالحقّ، واعصمنا عن الميل إلى رضا الخلق.
الباب الرابع: في بناء قبور الأنبياء والأولياء وتعميرها
وتعلية بنائها وتشييد أركانها
لا يخفى على من أمعن النظر ، وتتبّع الآثار والسير، أنّ الأزمنة مختلفة الأحوال بالنسبة إلى جميع الأقوال والأفعال، فربّ شيءٍ كان في قديم الزمان في أعلى مراتب الأستحسان، فانعكس وصار أدنى ما يكون أو كان. وحيث أنّ الشارع حكيم، وبالعباد رحيم، يراعي أحوالهم، ففي مبدأ الأسلام لما كان المعاش ضيّقاً، والأسعار متصاعدة في المآكل والملابس، حافظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة في أيامهم على المآكل الجشبة، والملابس الخشنة أو الخلقة، لئلا تنكسر قلوب الفقراء، ولتطيب نفوسهم، فأنهم إذا رأوا سيد الجميع لابساً رثّ اللباس، وآكلاً أدنى المأكول، إستقرت نفوسهم، وأطمئنت قلوبهم، وارتفعت كدورتهم. ثم لمّا توسعت أحوال الناس، وقوي الأسلام، ورخصت الأسعار، استعمل الأكثر من الخلفاء أحسن الملبوس، وأكلوا أطيب المأكول، وهذا التعليل مستفاد من الأخبار أيضاً.
ولذلك نقول في أمر بناء (المساجد) و(الحضرات)، فأنهم كانوا لا يرفعون البناء، ولا يزينون الدور، لما بهم من القصور، فإذا كانت بيوت الله، وبيوت أنبيائه لم يرفع بناؤها طابت نفوس الفقراء، واطمئنّت قلوبهم. وأما في مثل هذه الأيام ونحوها، حيث ارتفع بناء الدور، فلا وجه لجعل بيوت الله أخفض منها، ومن يرضى بتعلية بيوت الخلق على بيوت الخالق مع أنّ في تعليتها تعظيماً لشعائر الله، وهي البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه. و(القباب) منها، لأنّها جعلت للعبادة، وليس في بناء القباب تجديد قبر، لأنّ القبر باق على حاله لم يجدد، وإنّما وضع أساس القبة بعيداً عنه، ليكون فيها علامة على (المزار) الذي ندب إلى زيارته العزيز الجبار، ولتكون ظلالاً للزائرين، فلا تدخل في باب التجديد أصلاً، وكذا صندوق الخشب، فأنه أجنبي عن القبر لا دخل له به. وعن كلّ حال فأصل وضع البناء لهذه المقاصد الجليلة ليس فيه بأس أصلاً، ولو تركت العلامات ما أمكن التوصل الى زيارة أكثر الأموات لاندراس آثارهم، فوضع هذا للتمكن من إدراك فضيلة زيارة القبور، وكلما كان الشاهد أحكم، كانت دلالته على المشعر أدوم. وأما قضية (الزينة) فقد روي عن علي عليه السلام أنّ بعض الصحابة أشاروا على عمر أن يأخذ زينة الكعبة ليقوي بها جيوش المسلمين، فقال له علي عليه السلام: إنّ الأموال قسّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفقراء، وكانت في ذلك اليوم الحليّ موجودة ولم يقسّمها، فلا تخالف وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: ((لولاك إفتضحنا))، وأبقى الحليّ على حالها. والأصل في بناء (القباب) وتعميرها، ما رواه البناني (واعظ أهل الحجاز) عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جده الحسين، عن أبيه علي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: والله لتقتلن في أرض العراق، وتدفن بها. فقلت: يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها. فقال لي: يا أبا الحسن إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنة، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده تحن إليكم، ويعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها، تقرباً الى الله تعالى، ومودةً منهم لرسوله. يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها، فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الأسلام، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ونقل نحو ذلك أيضاً في حديثين معتبرين: نقل أحدهما الوزير السعيد بسند، وثانيهما بسندٍ آخر غير ذلك السند، ورواه أيضاً محمد بن علي بن الفضل. فبعد دلالة هذه الأخبار على تعمير (القباب)، واستمرار طريقة الأصحاب، مع أنها داخلة في المواضع المعدّة للطاعات، كالمساجد، والمدارس، والرباطات، مع أنّ فيها تعظيماً لشعائر الأسلام، وإرغاماً لمنكري دين النبي عليه الصلاة والسلام. وبعد أن بيّنا أنّ الحكم والمصالح تختلف بأختلاف الأوقات، وذكرنا إعتضاد ذلك بالروايات، لم يبق بحث من جميع الجهات. وعلى تقدير ثبوت الخطأ في هذا الباب، لا يلزم على المخطىء تكفير ولا عصيان، بل ربما يثاب، لأن الخالي من التقصير وإن إتصف بالقصور معذور كل العذر، بل هو مأجور. فيا أخي لا تعارض المسلمين فيما هم عليه إن لم تركن إلى ما ركنوا اليه، وأحملهم على المحامل الحسان، فأنّا هكذا أمرنا بحمل الأخوان، وفقنا الله وإياكم، وهدانا وهداكم، والله ولي التوفيق. وحيث إنتهى ما أردنا ذكره، وأحببنا رسمه وسطره، على غاية من السرعة والأستعجال، وعدم التمكن لأستيفاء كثير مما يناسب هذا المجال، والإستقصاء لما في كتب الأخبار والاستدلال، أحببنا أن نضيف إلى ذلك:
كشف الجواب عمّا تضمّنه ذلك الكتاب
من الأنكار على أكثر المسلمين في جميع الأقطار (1). أقول: إن أريد بدعوة غير الله والأستغاثة إسناد الأمر الى المخلوق على أنه الفاعل المختار الذي تنتهي إليه المنافع والمضار، فذلك من أقوال الكفار. والمسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة ومن قائلها، وما أظن أن أحداً ممن في بلاد المسلمين يرى هذه الرأي، ولا سمعناه من أحد إلى يومنا هذا. وإن أريد أنّ المدعو والمستغاث به له اختيار وتصرف في أمر الله تعالى، فيحكم على الله، فهذا أشد كفراً من الأول. وإن أريد دعاؤه والأستغاثة به للدعاء والشفاعة، أو من التصرف في العبارة، كما تقول: يا رحمة الله، ويا بيت الله، ويا عبدالله، ولا تريد إلاّ نداء الله ودعاءه، واستغاثتة، فهذا من أعظم الطاعات، وفيه محافظة على الآداب من كل الجهات. وكون الدعاء عبادة إنما يجري في قسم منه، وهوالطلب من الخالق المدبّر الذي جلّ شأنه عن الأشباه والنظائر. ولو جعلت كل دعاء عبادة، للزم أن دعاء (زيد) لأصلاح بعض الامور، أو دفع بعض المحذور، وطلب الأفعال، كلها من قبيل الكفر. فالسؤال، والأزواج، والعبيد، والخدّام في
الشفاعة ـ في الحقيقة ـ قسم من الدعاء والرجاء، ليس من خواص الأنبياء والأوصياء، وليس لأحد على الله قبول شفاعته، وإنما ذلك من ألطافه ومننه، ولا شفاعة إلا بإذنه ورضاه، والأخبار فيها متواترة. روى محمد بن عمرو بن العاص، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من سأل الله لي الوسيلة، حلّت عليه الشفاعة، رواه مسلم (1). وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سمع الأذان ودعا بكذا، حلت له شفاعتي يوم القيامة))، رواه البخاري (2). وعن عبدالله بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه، رواه مسلم (3). وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من ميت تصلي عليه أمة من الناس يبلغون مائة، كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه، رواه مسلم (4). وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أعطيت خمساً… (وعدّ منها الشفاعة) (5). وعن إبن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أول شافع وأول مشفع في القيامة ولا فخر (6). وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أول شافع وأول مشفع. ونحوه عن أنس (7)، وأبي بن كعب (.
____________
(1) صحيح مسلم (كتاب الصلاة)، باب 11؛ أبي داود (كتاب الصلاة)، باب 36؛ سنن الترمذي (كتاب المناقب)، باب 1؛ سنن النسائي (كتاب الأذان)، باب 37؛ مسند أحمد بن حنبل (كتاب الثاني)، الباب 168. (2) البخاري (كتاب الأذان)، باب 8؛ وصحيح مسلم (كتاب الصلاة)، باب 11؛ وسنن أبي داود (كتاب الصلاة)، باب 36. (3) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب 19 (من صلى عليه أربعون شفعوا فيه)، حديث 59. (4) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب 18، حديث 58. (5) صحيح مسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة)، باب 5، حديث 3. (6) صحيح مسلم (كتاب الفضائل)، (باب ـ 2 ـ ، تفضيل نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ـ على جميع الخلق)، حديث 2278. (7) صحيح مسلم (كتاب الأيمان)، باب 330. ( سنن الدارمي (المقدمة)، الباب 8.
وعن جبير بن مطعم، عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يشفع يوم القيامة ثلاثون (وعد منهم الأنبياء). وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الشفاعة على مراتب الناس في القابلية (1). وعن عبدالله بن مالك عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أتاني آتٍ من ربي، فخيّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فأخترت الشفاعة. وعن عبدالله بن أبي الجذعاء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه والدارمي يدخل الجنة بشفاعة رجل (2) من أمتي أكثر من بني تميم، رواه الترمذي والدارمي (3). وعن أنس قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: فأين أطلبك، قال: أولاً على الصراط، قلت: فأن لم ألقك؟ قال: عند الميزان، قلت: فأن لم ألقك، قال: عند الحوض، فأني لا أخطيء هذه المواضع، رواه الترمذي (4). وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله يقول بعد فراغ الشافعين من الشفاعة: شفّعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين (5). وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يحبس المؤمنون يوم القيامة، فيقولون لو استشفعنا، فيأتون (آدم)، فيعتذر بخطيئته، ثم (إبراهيم) فيعتذر بثلاث كذبات كذبهن، ثم (موسى) فيعتذر بقتل النفس، ثم (عيسى)، فيقول: لست هناك، فيقول الله تعالى بعد أن أسجد له: إشفع تشفع… (الخبر وهو طويل) (6). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ملكاً غضب عليه، فأهبط من السماء، فجاء إلى إدريس فقال له: إشفع لي عند ربك، فدعا له، فأذن له في الصعود. وفيه دلالة على الشفاعة في الدنيا. وستجيء في باب زيارة القبور أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من زارني كنت له شفيعاً)) (7).
____________
(1) سنن ابن ماجه: 2/1443. (2) في المطبوع: ((بشفاعتي رجال)). (3) الترمذي: 4/541. (4) الترمذي (باب صفة القيامة): 4/537. (5) الترمذي: 4/541. (6) الترمذي: 4/537. (7) سنن البيهقي: 5/245.
وبيان الحال: أن (الشفاعة) إن كانت من قبيل الدعاء، فيرجع طلبها إلى إلتماس الدعاء من الأنبياء والأولياء، فتكون عبارة عن دعاء مخصوص لنجاة الغير، أو قضاء حاجته في أمور الدنيا والآخرة، فلا كلام ولا بحث في جواز طلبها من كل أحد، فهي كما لو سألت إخوانك الدعاء. ويؤيد ذلك انه لما سئل إدريس عليه السلام الشفاعة دعا. ولا فرق بين الأحياء والأموات، فأنّا سنبين ـ إن شاء الله ـ تواتر الأخبار في أن الأموات يسمعون وينطقون، لكن الناس لا يسمعون كلامهم. فالشفاعة بهذا المعنى لا غضاضة في طلبها، إذ لسنا في ذلك بمنزلة من قالوا لا طاقة لنا بعبادة الله، ونحن نعبد الأصنام، وهم يوصلوننا الى الله. وإن أريد بالشفاعة منصب أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأوليائه، فيدفعون بالأذن العام عن الناس، بمعنى أن الله أذن إذناً عاماً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في إنقاذ بعض أهل العذاب من العذاب يوم يقوم الحساب، فبهذا المعنى تكون مخصوصةً في الآخرة. ولا ريب أن المستشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأولياء في دار الدنيا، يريد المعنى الأول. فليت شعري ما الذي ينكر من طلب الشفاعة، أمن جهة خطاب الموتى فلذلك لا يوجب كفراً ولا إشراكاً، لو كان خطأ، فكيف لو كان صواباً، أو من جهة إسناد الأمر إلى غير الله سبحانه، وهذا أعجب من السابق، فأن الداعي والساعي في حاجة أحد إلى مولاه لا يرتفع عن درجة العبودية، ولاسيما إذا لم يحدث شيئاً إلا عن إذنه. ومن البديهية (1) أن العبيد والخدام القائمين بشرائط العبودية والخدمة مع الأذن يشفعون عند مواليهم في قضاء حوائج الناس، ولا يخرجهم ذلك عن العبودية والخدمة، بل هذا نوع من العبودية. وفي أحاديث الشفاعة ما يدل على عموم الشفاعة في دفع المضار الدنيوية والأخروية. وقد نقل عن الصحابة بطرق معتبرة أن الصحابة كانوا يلجأون إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويندبونه في الأستسقاء ورفع الشدائد والأغراض الدنيوية. روى البيهقي بطريق صحيح عن مالك الدار خازن عمر رضي الله عنه أنه أصاب الناس قحط، فذهب رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إستسق لأمّتك فقد هلكوا، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقال له: قل لعمر: قد سقوا (2).
____________
(1) في النسخة المطبوعة: ((الأمور البديهيّة)). (2) البيهقي: 3/344.
وقد روي أنّ من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نومه فكأنما رآه في يقظته، لأن الشيطان لا يتمثل به (1). وروى البيهقي بطريق صحيح أن رجلاً في أيام عمر رضي الله عنه جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله سلم، فقال: يا محمد إستسق لأمتك (2). وروى الطبراني وابن المقري أنهم كانوا جياعاً، فجاؤا إلى قبر النبي، فقالوا: يا رسول الله الجوع، فاشبعوا. والغرض أن ذلك ظاهر بين الصحابة والسلف، لا يتناكرونه أبداً، وحيث كان لا يزيد على سؤال الدعاء، واتضح في البحث الآتي أن الأنبياء والأولياء أحياء، لا يبقى كلام أصلاً.
الخاتمة
وأما الخاتمة، فتشتمل على أبواب:
الباب الأول: في حياة الأموات بعد موتهم
وفيه فصول:
الفصل الأول : في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته
وإنه يسمع الكلام ويرد الجواب، كما في حياته غير أن الله حبس سمع الناس إلاّ قليلاً من الخواص، ولا بعد في ذلك بعد الأقرار بعموم قدرة الجبار، فأن من أودع تلك النطفة روح الإنسان، قادر أن يودعها في أي محل كان. ولا ينافي ذلك إطلاق إسم الموت عليه، وأن الحياة إنما هي وقت البعث، لان المراد أن عود تلك الأجسام على الحال السابق والكيفية السابقة، إنما يكون في ذلك الوقت، وإن
____________
(1) صحيح مسلم (كتاب الرؤيا)، باب 1 حديث 11. (2) البيهقي: 3/350.
ظهور ذلك للناظرين، إنما يكون في ذلك الحين، ولابد أن تتلقّى ما ورد عن النبي الكريم، بأشد القبول والتسليم. روي عن أمّ سلمة رضى الله عنه، قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتراب على شيبته، فسألته، فقال: شهدت قتل الحسين عليه السلام. وعن ابن عباس أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وفي يده قاروة، فقلت وما هذه. فقال هذا دم الحسين عليه السلام (1). وقال المبارزي: نبينا حي بعد وفاته. وقال شيخ الشافعي (2): نبينا حي بعد وفاته، فأنه يستبشر بطاعات أمته، ويحزن من معاصيهم، وتبلغه صلاة من يصلّي عليه. وعن علي عليه السلام أنّ أعرابيا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إستغفر لي، فنودي من داخل القبر ثلاث مرات: قد غفر الله لك (3). وروى أبو داود في مسنده، عن أبي هريرة، مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ما من أحدٍ يسلّم عليّ إلاّ ردّ الله روحي حتى أردّ عليه. وذكره إبن قدامة من رواية أحمد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من أحد يسلّم عليّ عند قبري إلاّ ردّ الله عليّ روحي. وذكره بعض أكابر مشايخ البخاري. وفي خبر النسائي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض، يبلغونني من أمتي السلام. فعلى هذا لا فرق بين السلام من قرب، أو بعد. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من صلّى عليّ عند قبري سمعته (4). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من صلى عليّ عند قبري، وكل الله به
____________
(1) تاريخ ابن عساكر، ص263. (2) عبدالقاهر بن طاهر البغدادي الأسفراييني، ولد ونشأ في بغداد، ورحل إلى خراسان واستقرّ في نيسابور، ومات في أسفرائين. له مؤلفات كثيرة. (3) كنز العمال: 1/506. (4) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 1/488، الباب السادس في الصلاة عليه وعلى آله، حديث 2197.
ملكاً يبلغني (1). وروى إبن أوس مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فأن صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: أو كيف تعرض عليك وأنت رميم؟! فقال: إنّ الله حرّم على الأرض لحوم الأنبياء (2). وهذا يعم الأنبياء (صلى الله عليهم). وروى الحافظ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي (3). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله وكّل ملكاً يسمعني أقوال الخلائق، يقوم على قبري، فلا يصلّي عليّ أحد إلاّ قال: يا محمّد (فلان) بن (فلان) يصلّي عليك، صلّوا عليّ حيثما كنتم، فأن صلاتكم تبلغني. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أعمالكم تعرض عليّ (4). والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى، وفيها دلالة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب في مماته كما يخاطب في حياته، بل يظهر من بعض الروايات (5) أنّ كلامه يسمعه بعض الخواص. أخرج أبو نعيم في دلائل النبوة، عن سعيد بن المسيب، قال: لقد كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فما يأتي وقت صلاةٍ إلاّ سمعت الأذآن من القبر. وأخرج ابن سعد في الطبقات، عن سعيد بن المسيب أنه كان يلازم المسجد أيام الحرّة، فإذا جاء الصبح سمع أذاناً من القبر الشريف (6). وأخرج زبير بن بكار (7) في أخبار المدينة، عن سعيد بن المسيب، قال: لم أزل أسمع الأذان والأقامة من قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام الحرّة، حتى عاد الناس. وأخرج الدارمي في مسنده، عن مروان، عن سعيد بن عبدالعزيز أنّه كان لا يعرف وقت الصلاة إلاّ بهمهمةٍ تخرج من القبر (.
____________
(1) كنز العمال، حديث 2196. (2) كنز العمال: ج1، الباب السادس، حديث 2141. (3) كنز العمال: ج1، الباب السادس، حديث 2242. (4) صحيح مسلم (كتاب المساجد)، باب 57؛ ومسند أحمد بن حنبل، الكتاب الخامس. (5) في النسخة المطبوعة: الأخبار. (6) الطبقات الكبرى: 5/132. (7) الزبير بن بكّار، من أهل المدينة، توفي سنة 256هـ / 870م عن (84) عاماً. له مؤلفات في الأنساب والتاريخ. ( سنن الدارمي: 1/56.
الفصل الثاني : في حياة سائر الشهداء والأنبياء
قد سبق أن الارض لا تأكل لحومهم. قال البيهقي في كتاب الأعتقاد (1): إنّ الأنبياء بعدما قبضوا رّدت إليهم أرواحهم، فهم أحياء كالشهداء. وقال القرطبي في التذكرة (2): الموت ليس عدماً محضاً، يدل على ذلك أن الشهداء أحياء، فالأنبياء أولى، وقد صحّ أنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجتمع بالأنبياء ليلة الأسراء في بيت المقدس وفي السماء. وقال الأستاذ أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعي: إنّ الأنبياء لا تبلى أجسادهم، ولا تأكل الأرض منهم شيئاً، وقد إلتقى نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مع إبراهيم، وموسى بن عمران. وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنّه مرّ بقتلى بدر فكلّمهم، فقال له أصحابه: كيف تكلّم أجساداً لا أرواح فيها؟! فقال: لستم اسمع منهم لكنهم لا يتكلمون. وعن قتيبة وأبي الفضل، عن إبن عباس أنّ الحواريين قالوا لعيسى: أحي لنا يحيى بن زكريا، حتى ننظر إلى وجهه، فخرج معهم وأحياه، وإذا نصف شعر رأسه ابيض، وقد كان أسوداً فسألوه، فقال: لما نوديت زعمت أنها القيامة، فقال عيسى: أتريد أن أسأل الله أن يردك إلى الدنيا؟ فقال: إن مرارة الموت لم تخرج من حلقي بعد. وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه مرّ بابراهيم يصلّي، وبموسى يصلّي. وفي حديث المعراج أنه مرّ بكثير من الأنبياء يصلون. وقال الحافظ شيخ السنة أبو بكر البيهقي في الإعتقاد: إن الأنبياء تردّ إليهم أرواحهم بعدما يقبضون، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة منهم، وصلّوا خلفه، وقد أخبر هو عن ذلك، وخبره صدق، أنّ صلاتنا تعرض عليه، وانّ
____________
(1) الأعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للحافظ البيهقي الشافعي، طبع في بيروت سنة 1988م. (2) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة لشمس الدين محمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة 671هـ، وهو مطبوع بالقاهرة سنة 1981م ضمن جزأين.
الأرض لا تأكل من لحمه. وعن الشيخ عفيف الدين أنّ الأولياء من جملة خصائصهم رؤيا الأنبياء. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: إنّ حياة الأنبياء والشهداء في القبور كحياتهم في الدنيا، ويدل عليه صلاة موسى وجماعة من الأنبياء ليلة الأسراء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الثقات عن أنس مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الأنبياء أحياء في قبورهم. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: مررت بقبر موسى بن عمران فرأيته يصلّي (1). وقال الله تعالى في حق من قتلوا في سبيل الله: ((أحياء عند ربّهم يرزقون)) (2) إلى غير ذلك من الأخبار.
الفصل الثالث : في حياة سائر الموتى
روى إبن عباس مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من أحدٍ يمر بقبر أخيه المؤمن فيسلم عليه إلاّ عرفه، وردّ عليه السلام. وفي رواية: ما من أحدٍ يمر بقبر رجلٍ يعرفه إلاّ عرفه وردّ عليه السلام (3). ونقل أبو عبدالله البخاري أنّ الشهداء وسائر المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلّم عليهم، عرفوه وردوا عليه السلام. وروى الثعلبي في تفسيره، وابن المغازلي الواسطي في المناقب: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه لما حملهم البساط، وصلوا إلى موضع أهل (الكهف)، فقال: سلّموا عليهم، فسلّموا عليهم، ولم يردوا، فسلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله (4). وأخرج الشيخ ابن حيارة في كتاب (الوصايا)، عن قيس، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من
____________
(1) تراجع هذه الأحاديث في كنز العمال، الفصل الثالث في زيارة القبور، المجلد الخامس. (2) القرآن الكريم: 3/169 (سورة آل عمران). (3) كنز العمال: 5/646. (4) ابن المغازلي، مناقب علي بن أبي طالب، ص2.
لم يوص، لم يؤذن له في الكلام مع الموتى، قيل، يا رسول الله الموتى يتكلمون، فقال: نعم ويتزاورون. وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى جعفرا يطير في الجنة. ونقل أبو بكر محمد بن عبدالله الشافعي أن عيسى لما دفن مريم، قال: السلام عليك يا أماه، فأجابته من جوف القبر: وعليك السلام حبيبي، وقرة عيني، فقال لها: كيف وجدت طعم الموت؟ فقالت: والذي بعثك بالحقّ ما ذهبت مرارة الموت من حلقي، ولا خشونته من لساني. وروى الحاكم عن سالم بن أبي حفصة قال: توفي أخ لي، فوضعته في القبر، وسوّيت عليه التراب، ثم وضعت أذني على لحده، فسمعت قائلاً يقول له: من ربّك، فسمعت أخي يقول بصوت ضعيف: ربي الله، فقال له: وما دينك، فسمعت أخي يقول بصوتٍ ضعيف: ديني الأسلام، فسمعته يقول له: ومن نبيّك؟ فسمعته يقول بصوت ضعيف: محمّد نبيّي، فسمعته يقول له: نم نوم العروس، وسمعت الملك الآخر يقول له أبشر بروحٍ وريحان، وربّ غير غضبان (1). وفي الأخبار، عن عمر بن الخطاب أنه قال: ما من ميت يموت، يوضع على سريره، فيخطى ثلاث خطوات، إلاّ وينادى بنداء يسمعه ما شاء الله من الخلائق غير الثقلين. فيقول: يا إخوتاه، يا خدماه، يا حملة نعشاه، لا تغرّنكم الدنيا كما غرّتني، ولا يلعبن بكم الزمان كما لعب بي، خلّفت ما جمعت لورثتي، ولم يحملوا من خطيئتي شيئاً، والديّان يحاسبني، وأنتم تشيعوون جنازتي، ثم تدعونني في لحدي. وزيد في آخر: ثم تسلمونني الى منكر ونكير، واندامتاه واندامتاه، واندامتاه (2). وعن الفقيه الزاهد إسماعيل بن الحسن، عن عمر بن الخطاب أنه دخل المقابر، فنادى يا أهل المقابر الأموال قد قسّمت، والدور قد سكنت، والأزواج قد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فأخبرونا ما عندكم، قال: فهتف به هاتف، وهو ينادي ويقول: يابن الخطاب وجدنا ما عملنا ربحاً، وما خلفنا خسراناً، والجبار سألنا عن جميع ما فعلنا، ثم سكت. وعن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يمرّ أحد بالمقابر إلاّ ويناديه أهل القبور: يا
____________
(1) كنز العمال: 15/605. (2) كنز العمال: 1/596.
غافلاً لو علمت بما نحن فيه لذاب لحمك وجسمك، كما يذوب الثلج في النار (1). وعن الضحاك، عن إبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الموتى ينادون في كل يوم ثلاث مرات من قبورهم: يا أهل الديار عجلوا عجلوا، فأنما نحن محبوسون من أجلكم، الرحيل الرحيل، لا تحبسوا إخوانكم، خرّبوا ما بنيتم، وأتركوا ما جمعتم، نورتم البيوت، وأظلمتم القبور، وبنيتم البيوت، ونسيتم القبور، وعمرتم البيوت، وخربتم القبور، ووسعتم البيوت، وضيقتم القبور، (وذكروا غير ذلك) (2). وعن أبي عبدالله محمد بن عمر، يروي عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من يوم يمضي إلا وملك يهتف: يا أهل القبور من تغبطون اليوم فيقولون: نغبط أهل المساجد، يصلّون في مساجدهم، ويصومون ويصدّقون، ولا نقدر نصلي ونصوم ونتصدق. وعن محمد بن أبي عبدالله بن الفضل، عن محمد بن كعب، قال: مرّ عيسى على قبر، فرأى فيه عذابا شديداً، فدعا الله حتى أحياه، فقال له عيسى: فلم تعذّب. قال: كنت جالسا في سوق (مصر)، وقد أكلت شيئا، فأخذت عودةً من حزمة شوك لأخلل أسناني بها، ومت منذ أربعة آلاف سنة وأنا في عذابها، ثم قال: يا روح الله منذ أربعة آلاف سنة ومرارة الموت باقية في حلقي. فقال عيسى: اللّهم يسّر علينا سكرات الموت. وعن وهب بن منبه أن عيسى عليه السلام مرّ على نهرٍ فيه ماء عذب، وحوله خابية (3)، كلما يوضع فيها من ذلك الماء يصير مالحاً، فقال: إلهي ما خبر هذا الماء المالح؟! فأذن الله للخابية بالكلام، فقالت: إني كنت آدمياً، فبقيت في قبري ثلاثمائة سنة، ثم جاء لبّان، فضرب ترابي لبناً، وبنيت في قصر ثلاثمائة سنة، ثم خرب القصر، فبقيت تراباً مائتي سنة، ثم جاء شخص فجعلني (حبّاً)، ووضعني سقايةً على شاطىء هذا النهر من مائة سنة وكل ما يجعل فيّ يكون مالحاً، لما في من مرارة نزع الروح، وأنا معذب منذ مت، لأني أخذت إبرةً من جاري، وما رددتها حتى متّ. فما أدري أنّ عذابي أشد أم مرارة الموت، فقال عيسى: اللّهم يسّر عليّ الموت، ونجني من عذاب القبر… (الحديث). وقد ذكرنا من مضمونه محل الحاجة. وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أشد الأحوال على الميت حين يدخل (الغسال) داره ليغسله، فيخرج خواتم الشبان من اصابعهم، وينزع قميص العروس من بدنها، ويرفع
____________
(1) في النسخة المطبوعة: الملح بالماء. (2) كنز العمال: 15/626. (3) الخابية: الجرّة الكبيرة المستعملة لحفظ الماء.
عمائم المشايخ عن رؤوسهم. فعند ذلك يقول بصوت يسمع الخلائق غير الثقلين: يا غسال بالله عليك إنزع ثيابي برفق، فأني الساعة استرحت من مخاليب ملك الموت، فأذا صب عليه الماء صاح كذلك. فإذا رفع عن المغتسل، وشدّ مواضع قدميه بالكفن، يقول: بالله عليك لا تشد راس كفني ليرى وجهي أهلي وأولادي وعروسي التي كنت أحبّها، وينظر إلى وجهي أقربائي، وأحبائي وإخواني، وجيراني، ورفقائي، فأن هذه آخر رؤياي. فإذا خرج من الدار، نادى بالله عليكم يا حملة نعشي لا تعجّلوا بي، حتى أودّع داري التي بنيتها، وزيّنتها ونقشتها بأنواع النقوش، وأهلي ومالي وأولادي، فأن هذا خروج لا مردّ بعده إلى يوم القيامة. فإذا رفعت الجنازة، نادى يا حملة نعشي بالله عليكم لا تعجّلوا بي، حتى أسمع أصوات أولادي الذين يعولون خلف جنازتي، وعروسي التي تبكي عليّ، ووالدي الذي تقوّس ظهره لموتي، ووالدتي التي شدّت وسطها بالمنديل لمفارقتي، وقد نشرت شعرها، وضربت صدرها، وتقوّس ظهرها، وأبيضّت عيناها لفقدي. فإذا صلّي على جنازته، ورفع من المصلى،ورجع بعض أصدقائه، يقول: يا إخوتاه كنت أعلم أنّ الميت ينساه الأحياء، لكن لا بهذه السرعة، رجعتم قبل أن تدفنوني، ونسيتموني بهذه السرعة، وجسمي بعد بين أظهركم. فإذا وضع في لحده، ووضع عليه التراب، ينادي واورثتاه، تركت لكم الكثير، فلا تنسوني، وتصدّقوا عني على فقرائكم، ولو بكسرة خبز محترق، وعلمتكم القرآن والأدب، فلا تنسوني من الدعاء، فأني صرت محتاجاً، كفقرائكم على أبوابكم، ومحتاجاً إلى دعائكم، كصاحب حاجتكم الى ساداتكم (1). ومما يدل على بقاء حياتهم في قبورهم، ما دلّ على أنّ الميّت بعدما يسأل، يفتح له باب إلى الجنة، إن كان من أهل الخير، أو إلى النار إن كان من أهل الشر، وبقاء اللذة والألم ظاهر في بقاء أثر الحياة. وعن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات أحدكم، عرض عليه مقعده بالغدوة والعشيّ، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الميت يسأل في قبره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأن
____________
(1) تراجع هذه الأحاديث في الجزء الخامس عشر من كنز العمال في الباب الأول (في ذكر الموت وفضائله)، حديث 42094 حتى حديث 43011 (من ص548 حتى ص758).
أجاب بالحق قيل له: نم نومة العروس، وإلاّ فتح له باب إلى قبره يكون معذباً إلى يوم القيامة (1). وعن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يأتيه ملكان يجلسانه، ثم ذكر أنهما يسألانه، فأن أجاب بحق، فتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، وإلاّ يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها. الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على أنهم في قبورهم يتلذذون و يتألمون، وهذا من توابع الحياة ولوازمها. وكيف كان فقد بلغت هذه الأخبار فوق التواتر، وبعد عموم قدرة الفاعل المختار، لا بعد ولا غرابة في مداليلها. وما دلّ من الكتاب والسنة على أنّ الأحياء يكون عند النفخ في (الصور)، فقد بيّنا أنّ المراد: إمّا الحياة على النحو المعهود من تلك الأشخاص الخاصة بعينها، أو يراد أنّه يوم البروز والظهور على عيون الأشهاد. وإذا تبيّن بهذه الأخبار المتواترة، أنهم يسمعون ويعقلون ويعرفون من يخاطبهم، صحّ لنا أن نخاطبهم مخاطبة الأحياء فنلتمس دعاءهم، ونقسم عليهم بالأقسام في أن يكونوا شفعاء لنا في الدنيا وفي يوم القيام، لأنّ الشفاعة أظهر فرديها أنها دعاء خاص، واختصاص الخواص بها باعتبار قبولها. فلو قال قائل لنبي، أو وصي، أو عبد صالح: إشفع لي، أو إدع لي، أو أغثني، أو أعنّي (أي بدعائك)، أو قال: إقض لي حاجتي، أو إرزقني مالاً، وأدفع الضرر عني، ونحو ذلك ولا يريد سوى التوسط بالدعاء وسؤال الله، لم يكن عليه شيء. وقد وقع كثير من ذلك في كلام الصحابة والتابعين، بل ربّما كان هذا التعبير أولى، لدلالته على قرب منزلة العبد عند مولاه واحترامه، فتكون شهادة له بنبوته، وقرب منزلته. وليس على من قال للعبد المقرب، أو إلى الخادم المقرب: إقض حاجتي، (بمعنى إسع لي في قضاءها عند مولاك)، بأس، بل هو أنسب في التواضع الى المولى. وأما من قال مثل ذلك معتقداً أنّ الأنبياء والأوصياء بأيديهم الأمر أصالةً، يفعلون ما يشاؤون، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
____________
(1) سنن الترمذي (كتاب الجنائز)، باب 70 ـ ما جاء في عذاب القبر حديث 1071.
وإني قد طفت بشطر من بلاد المسلمين، وخالطت كثيراً منهم منذ سنين، فلم أر أحداً بعتقد أنّ في الوجود فاعلاً مختاراً سوى الفاعل المختار العزيز الجبار تبارك وتعالى، وذلك مراد (العوام) في خطاباتهم، فضلاً عن العلماء الأعلام، إلاّ أنهم لا يمكنهم كشف الحال، وإن كان مقصدهم ذلك على الأجمال. نسأل الله وإياكم طريق السداد والنجاة من أهوال يوم المعاد.
الباب الثاني: في الزيارات
وفيه فصلان:
الفصل الأول : في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
روى الدارقطني في السنن وغيرها، والبيهقي، وغيرهما من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبدالله العمري، عن نافع، عن إبن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من زار قبري وجبت له شفاعتي. وعن نافع، عن سالم، عن ابن عمر مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من جاءني زائراً ليس له حاجة إلاّ زيارتي، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة. وعن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من حجّ وزار قبري بعد وفاتي، كان كمن زارني في حياتي. وروي عن عائشة أيضا، وعن نافع، عن إبن عمر، عن النبي، قال: من زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً. وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من حجّ فلم يزرني، فقد جفاني (1). وعن أبي هريرة مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من زارني بعد موتي، فكأنما زارني حياً (2).
____________
(1) تراجع هذه الأحاديث في سنن البيهقي: 5 (كتاب الحج)، باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (2) كنز العمال (باب زيارة قبر النبي)، المجلد الخامس، حديث 12382.
وعن أنس مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال من زارني في المدينة، كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة (1). وعن أنس مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من زارني ميّتاً كمن زارني حياً، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة. وعن إبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من زارني في مماتي، كان كمن زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني. وعن علي عليه السلام مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من زار قبري بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني. وعن إبن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من حج ّ وقصدني في مسجدي، كانت له حجتان مبرورتان. وروى إبن عساكر، عن علي عليه السلام، قال من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن بكر بن عبدالله مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: من أتى المدينة زائراً لي، وجبت له الجنة. وعن كعب الأحبار أنّ عمر لمّا فتح بيت المقدس، قال لي: هل لك أن تسير معي الى المدينة نزور قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذهبت معه، فلمّا دخل بدأ بالمسجد، وسلّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الموطأ عن إبن عمر كان يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيسلّم عليه، وعلى أبي بكر، وعمر. وسئل نافع هل كان ابن عمر يسلّم على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقال: رأيته مائة مرّة أو أكثر يسلّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أبي بكر، وعمر. وعن إبن عمر: أنّ سنّة السلام من قبل القبلة. ونقل الدارقطني، عن علي عليه السلام أنه دخل المسجد فسلم على القبر. وروي عن آل الخطاب، وعن بعض الحفّاظ زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
____________
(1) كنز العمال (باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم) المجلد 15، حديث 42584.
وكيف كان، فالروايات في استحباب زيارته وشفاعته لزوّاره، داخلة في قسم المتواتر، وعمل الصحابة، والتابعين، وأهل البيت أجمعين على ذلك. قال عياض: زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنّة، أجمع عليها المسلمون. وروى غيره إجماع المسلمين قولاً وفعلاً على استحباب زيارته، وصريح بعضها (1) أن شدّ الرحال إليها لا مانع منه. وفيما دل على استحباب التعظيم، وانّ حرمة الاموات كحرمة الأحياء، كفاية.
الفصل الثاني: في زيارة باقي القبور
قد مرّ في الأخبار الماضية زيارة الصحابة قبري الشيخين. وروى بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (2). ولعل السر ـ والله أعلم ـ أنه في مبدأ الأسلام كانت زيارة القبور وتذكار الموتى والقتلى، باعثاً على الجبن عن الجهاد، حتى إذا قوي الأسلام أمرهم بها. ونحو ذلك في خبر آخر. وعن أبي هريرة، أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم زار قبر أمّه، ولم يستغفر لها، قال: أمرت بالزيارة، ونهيت عن الأستغفار، فزوروا القبور، فأنّها تذكر الموت (3). وعن بريدة أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج إلى المقابر، قال: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين))، رواه مسلم (4). وعن عائشة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى البقيع آخر الليل، فيقول: السلام عليكم… (الخبر)، رواه مسلم (5).
____________
(1) في النسخة المطبوعة: وصرّح بعضهم. (2) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، المجلد الثاني، باب 36، حديث106؛ وسنن ابن ماجه (باب ما جاء في زيارة القبور)، باب 47، حديث 1571. (3) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب استئذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربّه في زيارة قبر أمّه، حديث 108. (4) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب ما يقال عند دخول القبور، حديث 104. (5) صحيح مسلم (كتاب الجنائز)، باب ما يقال عند دخول القبور، حديث 102.
وكيف كان فالأخبار متظافرة على زيارة القبور، ولا حاجة لنقل جميعها، وفيما ورد من أنّ حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً دلالة على ذلك، وزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة لقبور الشهداء أوضح من الشمس في رابعة النهار.
الباب الثالث : في التبرك بالقبور ونحوها
إختلف العلماء من أهل السنة والجماعة في جواز التبرك بالقبور، فمنهم: من أجازه على كراهة. قال النووي: لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر به. قال: ويكره مسّه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه، كما لو حضر في حياته. وكلامه ظاهر في أنّ المس أبعد من التعظيم، وشبهة العبودية. وذكر إبن عساكر في (تحفه)، عن ابن عمر أنه كان يكره مس قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويظهر من بعضهم ندبه وأستحبابه. نقل عبدالله بن أحمد بن حنبل في كتاب العلل والسؤالات، قال: سألت أبي عن الرجل يمس منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يتبرك بمسه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله تعالى، فقال: لا بأس به. وعن إسماعيل أن إبن المنكدر (1) يصيبه الصمّات، فكان يقوم ويضع خدّه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعوتب في ذلك، فقال: يستشفى بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والأستشفاء أعظم من التبرك. ونقل عن إبن أبي الضيف، والمحب الطبري، جواز تقبيل قبور الصالحين، وظاهره الندب. وفي رواية عن إبن حنبل أني لا أعرف التمسح بالقبر، أما المنبر فنعم، لما روي أن إبن عمر كان يفعله. ونقل عن مالك التبرك بالمنبر.
____________
(1) محمد بن المنكدر القرشي التيمي أحد الأئمة التابعين، توفي سنة 130هـ / 748م.
وروي عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حينما أراد الخروج إلى العراق، جاء الى المنبر، وتمسّح به. وقال السبكي: منع التمسح بالقبر ليس مما قام الأجماع عليه. وأستدل بما رواه يحيى بن الحسن، عن عمر بن خالد، عن أبي نباته، عن كثير بن يزيد، عن المطلب بن عبدالله، قال: أقبل مروان بن الحكم، فإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته وقال: ما تصنع؟! فقال: إني لم آت الحجر ولا اللبن، إنما جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وذكر رواية أحمد، قال: وكان الرجل أبا أيوب الأنصاري. ونقل هذه الرواية أحمد، وزاد فيها: أنه قال: سمعت رسول الله يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن إبكوا عليه إذا وليه غير أهله. وعن أبي الدرداء أن بلالاً رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقال له: ما هذه الجفوة يا بلال، أما لك أن تزورني؟! فانتبه حزينا خائفاً، فركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يبكي عنده، ويمرّغ وجهه عليه، إلى أن ذكر حضور الحسنين وبكاء أهل المدينة، وأذان بلال، قال: فما رئي أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك اليوم. وذكر إبن حملة أن (بلالاً) وضع خديه على القبر، وأن ابن عمر كان يضع يده اليمنى عليه. ونقل عن مالك، والزعفراني تحريمه، وهو الظاهر من كلام أنس بن مالك، حيث قال: ما كنا نعرفه. وكيف كان كيف يدّعى المسّ والتبرك عبادة مع أنه أبعد من التعظيم، وقضية الذم على عبادة يعوق ويغوث ونسر، ليس من جهة التبرك، كما نصّ عليه المفسرون (1)، حيث قالوا: تبركت الآباء فانتهى الأمر إلى عبادة الأبناء، فوقع الذم على الأبناء. وتحقيق الحال: أنّ التقبيل على أنحاء: منها: تقبيل المحبة، لأنّ من أحبّ شخصاً أحبّ مكانه، وثيابه، وداره، ومزاره، فلا يكون تقبيل الأعتاب، والجدران، والأبواب إلاّ كتقبيل بعض ثياب الأحباب، فهو من قبيل قوله:
____________
(1) في تفسير الآية (23) من سورة نوح.
أمرّ على الديار ديار (ليلى) * أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبي * ولكن حبّ من سكن الديارا
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تقبيل اليد، فنهى عن ذلك، إلاّ في تقبيل يد الزوجة للشهوة، ويد الولد للمحبة. وعن علي عليه السلام انه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح خيبر: لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت اليوم فيك مقالاً، لا تمر على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك، وفضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أنّك مني وأنا منك (1). وروي عن علي عليه السلام أنه قال: قدم علينا أعرابي بعد دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على القبر، وحثا من ترابه على رأسه. وعلى كل حال فالذي يظهر بعد تحقيق النظر أنّ التقبيل للمحبة من قبيل تقبيل الوالد لولده (2)، والأرحام بعضهم لبعض فلو قبّل بعضهم جدران بعض، أو ثياب بعض، أو مكان بعض، حباً وإرادة، لا تعظيماً ولا عبادة، فليس فيه بأس. وأما قصد التعظيم والأكرام، فليس فيه خروج عن ملة الأسلام، قصارى ما هناك أنه عدّه بعض العلماء من الآثام، فليس على الفاعل عن دليل في الرد عليه من سبيل. وأما من فعل مشرعاً فهو عاصٍ لربه، حتى يتوب عن ذنبه. ولقد نقل عن بعض أمراء دار السلام بغداد أنه وشى بعض الوشاة على جماعة أنهم يقبّلون أعتاب الأولياء، فقال: سبحان الله في كل يومٍ تقبلون جلد الميتة ((يعني الفروة التي هو لا بسها))، ولا تقبّلون أعتاب أبواب الأولياء. وعلى أي تقدير، فالغرض إنما هو نفي (التكفير). ونسبة فعل هؤلاء إلى فعل عبدة الأصنام خروج عن الأنصاف في هذا المقام، لأنّ الذاهبين إلى الجواز منا إنما أخذوا عن الدليل، لا لمجرد الأختراع والأبتداع، فأن اشتبهوا عذروا وأجروا. فمن قبّل الحجر الاسود، والركن اليمانيّ، أو باقي الأركان، أو مسها، أو لزم المستجار، فقد تبرك بتلك الأحجار، لأنها بأمرٍ من العزيز الجبار، ولو أخطأ الأمر، كان
____________
(1) نهج البلاغة: 2/449. (2) في النسخة المطبوعة: ((الوالدة لولدها)).
مثاباً. ومن طاف بين (المروتين)، عملاً بالكتاب وسنة سيد الثقلين، لم يكن عليه مؤاخذة في البين. وطوائف المسلمين بأجمعهم لا يتبرك منهم أحد بقبر أو غيره، إلاّ أنه بزعم أنه مأمور من الله، ومن تبرّك قاصداً للعبادة، فهو خارج عن ربقة المسلمين. ومن البين المعلوم أنه لو أمر (المولى) عبده بالتبرك بثياب عبده المقرب، أو مكانه، أو قبره، فأمتثل، كان مطيعاً لمولاه، لا للعبد الذي قرّبه وأدناه. فأقسمت عليك بمن جمع بيننا في كلمة الأسلام، وألّف بين قلوبنا في هذه الأيام، أن تنفرد عن الأصحاب إذا ورد عليك (الكتاب)، وترى نفسك كأنّك الآن خلقت من تراب، وتبذل الجهد في تمييز الخطأ من الصواب، فأنّه ـ والله (1) ـ لا حاجة بنا إلاّ إليه، ولا إعتماد لنا إلاّ عليه. وليس لنا مع الأنبياء والأولياء قرابة نسب، ولا لهم علينا ما نخاف منه الطلب، وإنما عظّمناهم لأمر الله، وأخذنا بأقوالهم عملاً بقول رسول الله، وما أبرّء نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي. وكشف الحال على وجه يدفع ما قيل أو يقال: إنّ التواضع والتبرك والأكرام والأحترام لما هو معظّم عند الملك العلام من تعظيم الله، كما أن قرآنه وبيته، ومساجده لا نتسابها إليه، إحترام له تبارك وتعالى. فمن عظّم عيسى ومريم وعزير لعبوديتهم، وقرب منزلتهم، فهو معظّم لله. كما أن من عظم بيت السلطان وعبيده وغلمانه وأتباعه من حيث التبعية، يكون معظماً للسلطان. وأما من (وجدها) قابلة للتعظيم، وأهلاً له من حيث ذاتها لا لأجل العبودية والتابعية، وإن كان غرضه التقريب زلفى، إنما يكون معظّما لها، لا للسلطان. وإني منذ ثلاثين حجة أنظر في حال طوائف المسلمين، محقيهم ومبطليهم، فلم أجد أحداً يعظم كتاباً، أو نبيّاً، أو مكاناً، أو عبداً صالحاً من غير قصد قربة من الله، أو انتسابه إليه، فقد ظهر أن هذا كله من باب طاعة الله وتعظيمه. وأمّا عبدة الأصنام والعباد الصالحين، فأنما أرادوا عبادتهم حق العبادة، كأن يصلّوا
(1) في النسخة المطبوعة: فأنا وأنت.
لهم، ويصوموا ويكون ذلك لأستحقاقهم بربوبيتهم في أنفسهم، أو للتقريب زلفى، فهي عبادة حقيقية على الوجهين. وعلى كل من الأحتمالين على أني ذكرت مكرراً أنهم عاندوا الرسل، وكذبوهم، واستهزؤا بهم، وقالوا أيضا: لا طاقة لنا بعبادة الله، وإنما نعبد الأصنام لأنّ عبادتهم مقدورة لنا، وهم يقربونا إلى الله زلفى، ولقد نقلت روايةً مشتملةً على ذلك المعنى في مقام آخر. فالفرق بين الأمرين أوضح مما يرى رأي العين. فبحق من شقّ لك السمع والبصر، وسلّطك على طوائف من الأعراب والحضر، أن توجّه ذهنك الوقّاد، وفكرك النقّاد، صافياً عن ملاحظة العصبية والعناد، وتجعل مناظرتنا كأنّها حين حلولنا في المقابر، وانصرفنا عن مرارة الدنيا، طالبين للنعيم الفاخر، وحضورنا يوم فصل القضاء بين يدي جبار الأرض والسماء، وكأنّ الملائكة بيننا شهود، وقد حضرنا في اليوم الموعود، وقد فارقنا الأموال والأولاد، وانقطعنا الى ربّ العباد. اللهم إجمع بيننا بالحقّ، واعصمنا عن الميل إلى رضا الخلق.
الباب الرابع: في بناء قبور الأنبياء والأولياء وتعميرها
وتعلية بنائها وتشييد أركانها
لا يخفى على من أمعن النظر ، وتتبّع الآثار والسير، أنّ الأزمنة مختلفة الأحوال بالنسبة إلى جميع الأقوال والأفعال، فربّ شيءٍ كان في قديم الزمان في أعلى مراتب الأستحسان، فانعكس وصار أدنى ما يكون أو كان. وحيث أنّ الشارع حكيم، وبالعباد رحيم، يراعي أحوالهم، ففي مبدأ الأسلام لما كان المعاش ضيّقاً، والأسعار متصاعدة في المآكل والملابس، حافظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة في أيامهم على المآكل الجشبة، والملابس الخشنة أو الخلقة، لئلا تنكسر قلوب الفقراء، ولتطيب نفوسهم، فأنهم إذا رأوا سيد الجميع لابساً رثّ اللباس، وآكلاً أدنى المأكول، إستقرت نفوسهم، وأطمئنت قلوبهم، وارتفعت كدورتهم. ثم لمّا توسعت أحوال الناس، وقوي الأسلام، ورخصت الأسعار، استعمل الأكثر من الخلفاء أحسن الملبوس، وأكلوا أطيب المأكول، وهذا التعليل مستفاد من الأخبار أيضاً.
ولذلك نقول في أمر بناء (المساجد) و(الحضرات)، فأنهم كانوا لا يرفعون البناء، ولا يزينون الدور، لما بهم من القصور، فإذا كانت بيوت الله، وبيوت أنبيائه لم يرفع بناؤها طابت نفوس الفقراء، واطمئنّت قلوبهم. وأما في مثل هذه الأيام ونحوها، حيث ارتفع بناء الدور، فلا وجه لجعل بيوت الله أخفض منها، ومن يرضى بتعلية بيوت الخلق على بيوت الخالق مع أنّ في تعليتها تعظيماً لشعائر الله، وهي البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه. و(القباب) منها، لأنّها جعلت للعبادة، وليس في بناء القباب تجديد قبر، لأنّ القبر باق على حاله لم يجدد، وإنّما وضع أساس القبة بعيداً عنه، ليكون فيها علامة على (المزار) الذي ندب إلى زيارته العزيز الجبار، ولتكون ظلالاً للزائرين، فلا تدخل في باب التجديد أصلاً، وكذا صندوق الخشب، فأنه أجنبي عن القبر لا دخل له به. وعن كلّ حال فأصل وضع البناء لهذه المقاصد الجليلة ليس فيه بأس أصلاً، ولو تركت العلامات ما أمكن التوصل الى زيارة أكثر الأموات لاندراس آثارهم، فوضع هذا للتمكن من إدراك فضيلة زيارة القبور، وكلما كان الشاهد أحكم، كانت دلالته على المشعر أدوم. وأما قضية (الزينة) فقد روي عن علي عليه السلام أنّ بعض الصحابة أشاروا على عمر أن يأخذ زينة الكعبة ليقوي بها جيوش المسلمين، فقال له علي عليه السلام: إنّ الأموال قسّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفقراء، وكانت في ذلك اليوم الحليّ موجودة ولم يقسّمها، فلا تخالف وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: ((لولاك إفتضحنا))، وأبقى الحليّ على حالها. والأصل في بناء (القباب) وتعميرها، ما رواه البناني (واعظ أهل الحجاز) عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جده الحسين، عن أبيه علي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: والله لتقتلن في أرض العراق، وتدفن بها. فقلت: يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها. فقال لي: يا أبا الحسن إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنة، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده تحن إليكم، ويعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها، تقرباً الى الله تعالى، ومودةً منهم لرسوله. يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها، فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الأسلام، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ونقل نحو ذلك أيضاً في حديثين معتبرين: نقل أحدهما الوزير السعيد بسند، وثانيهما بسندٍ آخر غير ذلك السند، ورواه أيضاً محمد بن علي بن الفضل. فبعد دلالة هذه الأخبار على تعمير (القباب)، واستمرار طريقة الأصحاب، مع أنها داخلة في المواضع المعدّة للطاعات، كالمساجد، والمدارس، والرباطات، مع أنّ فيها تعظيماً لشعائر الأسلام، وإرغاماً لمنكري دين النبي عليه الصلاة والسلام. وبعد أن بيّنا أنّ الحكم والمصالح تختلف بأختلاف الأوقات، وذكرنا إعتضاد ذلك بالروايات، لم يبق بحث من جميع الجهات. وعلى تقدير ثبوت الخطأ في هذا الباب، لا يلزم على المخطىء تكفير ولا عصيان، بل ربما يثاب، لأن الخالي من التقصير وإن إتصف بالقصور معذور كل العذر، بل هو مأجور. فيا أخي لا تعارض المسلمين فيما هم عليه إن لم تركن إلى ما ركنوا اليه، وأحملهم على المحامل الحسان، فأنّا هكذا أمرنا بحمل الأخوان، وفقنا الله وإياكم، وهدانا وهداكم، والله ولي التوفيق. وحيث إنتهى ما أردنا ذكره، وأحببنا رسمه وسطره، على غاية من السرعة والأستعجال، وعدم التمكن لأستيفاء كثير مما يناسب هذا المجال، والإستقصاء لما في كتب الأخبار والاستدلال، أحببنا أن نضيف إلى ذلك:
كشف الجواب عمّا تضمّنه ذلك الكتاب
من الأنكار على أكثر المسلمين في جميع الأقطار (1). أقول: إن أريد بدعوة غير الله والأستغاثة إسناد الأمر الى المخلوق على أنه الفاعل المختار الذي تنتهي إليه المنافع والمضار، فذلك من أقوال الكفار. والمسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة ومن قائلها، وما أظن أن أحداً ممن في بلاد المسلمين يرى هذه الرأي، ولا سمعناه من أحد إلى يومنا هذا. وإن أريد أنّ المدعو والمستغاث به له اختيار وتصرف في أمر الله تعالى، فيحكم على الله، فهذا أشد كفراً من الأول. وإن أريد دعاؤه والأستغاثة به للدعاء والشفاعة، أو من التصرف في العبارة، كما تقول: يا رحمة الله، ويا بيت الله، ويا عبدالله، ولا تريد إلاّ نداء الله ودعاءه، واستغاثتة، فهذا من أعظم الطاعات، وفيه محافظة على الآداب من كل الجهات. وكون الدعاء عبادة إنما يجري في قسم منه، وهوالطلب من الخالق المدبّر الذي جلّ شأنه عن الأشباه والنظائر. ولو جعلت كل دعاء عبادة، للزم أن دعاء (زيد) لأصلاح بعض الامور، أو دفع بعض المحذور، وطلب الأفعال، كلها من قبيل الكفر. فالسؤال، والأزواج، والعبيد، والخدّام في
مواضيع مماثلة
» منهج الرشاد لمن أراد السداد رسالة الأمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى الأمير عبدالعزيز بن سعود تأليف زعيم الأمامية في عصره الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1228هـ / 1813م حققه وقدّم له الدكتور جودت القزويني (الجزء الثاني )
» منهج الرشاد لمن أراد السداد رسالة الأمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى الأمير عبدالعزيز بن سعود تأليف زعيم الأمامية في عصره الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1228هـ / 1813م حققه وقدّم له الدكتور جودت القزويني
» حدث مع الدكتور الشيخ المرحوم احمد الوائلي اعلى الله مقامه
» مؤتمر علماء بغداد (الجزء الثالث)
» من حكم أمير المؤمنين عليه السلام ( الجزء الثالث )
» منهج الرشاد لمن أراد السداد رسالة الأمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى الأمير عبدالعزيز بن سعود تأليف زعيم الأمامية في عصره الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1228هـ / 1813م حققه وقدّم له الدكتور جودت القزويني
» حدث مع الدكتور الشيخ المرحوم احمد الوائلي اعلى الله مقامه
» مؤتمر علماء بغداد (الجزء الثالث)
» من حكم أمير المؤمنين عليه السلام ( الجزء الثالث )
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى