منهج الرشاد لمن أراد السداد رسالة الأمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى الأمير عبدالعزيز بن سعود تأليف زعيم الأمامية في عصره الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1228هـ / 1813م حققه وقدّم له الدكتور جودت القزويني (الجزء الثاني )
صفحة 1 من اصل 1
منهج الرشاد لمن أراد السداد رسالة الأمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى الأمير عبدالعزيز بن سعود تأليف زعيم الأمامية في عصره الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1228هـ / 1813م حققه وقدّم له الدكتور جودت القزويني (الجزء الثاني )
الفصل الثاني: في بيان اختلاف ظواهر الآيات والروايات
وإن لكلّ من الحق والباطل مأخذاً، كما روي: إنّ لكل حق حقيقة، ولكل صواب نوراً، فمن أراد الحق إهتدي إليه، ومن أراد الباطل كان له ميدان في المجادلة عليه. فمن خرج عن جادة الأنصاف، وسلك طريق الغي والأعتساف، ولم يرجع الي سيرة الصحابة والتابعين، أمكنه أن يستند الى ظاهر القرآن المبين، فيما يخرج عن شريعة سيد المرسلين. فأن (الوعيدية) المنكرين للعفو، الموجبين للمؤاخذة على المعاصي، يمكنهم الإستدلال بآية سورة الزلزال ((فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعلم مثقال ذرّة شراً يره)) (2)، و (الوعدية) القائلين برفع المؤاخذة بالكلية، وان الله لا يعاقب على معصية، لهم الإستناد
____________
(1) وفي نسخة (البندق)، ويقصد بها البنادق. (2) القرآن الكريم: 99/7 ـ 8 (سورة الزلزلة).
الى قوله تعالى: ((يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذّنوب جميعاً)) (1)، ووعده لا خلف فيه. والمثبتون للرؤية في الآخرة يستندون الى قوله تعالى: ((وجوه يومئذ ناضرة الى ربّها ناظرة)) (2)، والنافون الى قوله تعالى: ((لا تدركه الابصار وهو يدرك الأبصار)) (3). والقائلون بأن الله على العرش بآية ((على العرش استوى)) (4)، والنافون بقوله تعالى: ((إنّ الله معنا)) (5) و ((إنّ معي ربّي سيهدين)) (6) ((وما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم)) (7). والقائلون بالتجسيم على الحقيقة يستندون الى مثل قوله: ((يد الله فوق أيديهم)) (، والنافون الى قوله ((ليس كمثله شيء)) (9) ونحوها. والقائلون بجواز المعصية على الأنبياء يستندون الى مثل قوله تعالى: ((وعصى آدم ربّه فغوى)) (10)، والنافون بمثل قوله: ((لا ينال عهدي الظّالمين)) (11). والقائلون باستناد جميع الأفعال إلى الله، استندوا إلى قوله: ((خالق كلّ شيءٍ)) (12) وقوله: ((كلّ من عند الله)) (13). والآخرون الى قوله ((ما أصابك من حسنةٍ فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك)) (14). والقائلون بأن الكفار مخاطبون بالفروع بعموم ((يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم)) (15)، والنافون لذلك لخطاب ((يا أيّها الّذين آمنوا)) (1) الى غير ذلك.
____________
(1) القرآن الكريم: 39/53 (سورة الزمر). (2) القرآن الكريم: 75/23 (سورة القيامة). (3) القرآن الكريم: 6/103(سورة الأنعام). (4) القرآن الكريم: 20/5 (سورة طه). (5) القرآن الكريم: 9/40 (سورة التوبة). (6) القرآن الكريم: 26/62 (سورة الشعراء). (7) القرآن الكريم: 58/7 (سورة المجادلة). ( القرآن الكريم: 48/10 (سورة الفتح). (9) القرآن الكريم: 42/11 (سورة الشورى). (10) القرآن الكريم: 20/121 (سورة طه). (11) القرآن الكريم: 2/124 (سورة البقرة). (12) القرآن الكريم: 6/102 (سورة الأنعام). (13) القرآن الكريم: 4/78 (سورة النساء). (14) القرآن الكريم: 4/79 (سورة النساء). (15) القرآن الكريم: 2/21 (سورة البقرة).
وكذا في الفروع الفقهية، فأنّ كلاً من الفقهاء له مأخذ من الكتاب والسنة، مغاير لمأخذ صاحبه، كما لا يخفى على المتتبع، فلمن أراد أن يبيح جميع الأشياء قوله تعالى: ((خلق لكم ما في الأرض)) (2) ومن قصر التحريم على أربعة استند الى ما دل على تحليل جميع الأشياء ما عدا الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهلّ به لغير الله، من جميع ما خلق الله. والحاصل أنّ كلّ من أراد العناد والعصبية، فله مدرك يتشبث به من آية قرآنية، أو سنّة محمّدية، ويكون صاحب مذهب ورأي، يباحث الفضلاء، ويناظر أساطين العلماء، ما لم يكن له حاجب من تقوى الله. ولقد أجاد بعض القدماء، من فحول العلماء حيث يقول: إنّ المسائل الشرعية عندي بمنزلة الشمع اللّين، أصوّره كيف شئت لولا تقوى الله. ونقل أنّ بعض الفضلاء أخذ قطعةً من قرطاس في محفل من الناس، فأورد عليهم براهين على أنّها قطعة ذهب، حتى اقرّوا بذلك. ولكن من أراد رضا الجبار، ورجا الفوز بالجنة، وخاف عذاب النار، ينظر الى المعادلة في الدلالات، ثم ينظر المرجحات الخارجيات، وأولاها التأمل في طريقة الصحابة وسيرتهم، فأنّها أعظم شاهد على ما حكم به الجبار، وجرت عليه سنّة النبيّ المختار صلى الله عليه وآله وسلم فأنّ لكل ملّة طريقةً يرجعون إليها، ويعوّلون عند وقوع الأشتباه عليها. وقد يحصل العلم بما عليه الأمراء، من النظر الى عمل أتباعهم، وأشياعهم، ورعاياهم، وخدمهم، وحشمهم، لأنّ الأثر يدل على مؤثره، والمنتهى يدل على مصدره. وبعد العهد بيننا وبين زمان (الصدور)، ربّما أخفى علينا كثيراً من الأمور، فاذا حصل الأجماع والأتفاق، إرتفع النزاع والشقاق، وكذلك إذا اشتهر أمر بين السلف وظهر، فلا وجه للأنصراف عنه الى ما شذّ وندر. فقد علم أنّ الميزان الذي لا عيب فيه، ولا نقص يعتريه، هو الرجوع الى كلام الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، لأنه موضح وكاشف لحكم سيد المرسلين.
____________
(1) القرآن الكريم: 2/104 (سورة البقرة). (2) القرآن الكريم: 2/29 (سورة البقرة).
ولمّا اختلفت الأخبار في بعض ما أوردناه وشرحناه، لزم الرجوع إليهم، والأعتماد في تصحيح الأخبار ـ بعد الله ـ عليهم. على أنّ الأخبار الدالة على جواز ما منعه المانعون أكثر مورداً، وأوفر عدداً، وأقرب إلى ظاهر الكتاب والسنة وكلام الأصحاب. وفقنا الله وإياكم لأدراك حقائق الأمور، والتوفيق للسعادة يوم النشور، وجعلنا من المتمسكين بالعروة الوثقى، والمتشوقين إلى دار الآخرة التي هي خير وأبقى، والله ولي التوفيق، وبيده أزمة التحقيق.
الفصل الثالث : في بيان الميزان التي يرجع إليها إذا تشابهت الأمور
وهي ما عليه الصحابة والتابعون، وما أجمع عليه المسلمون. قال الله تعالى: ((ومن يتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى)) (1) وقال: ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت )) (2). وعن إبن عمر، أنه قال: لا تجتمع أمتي ـ أو قال: (أمّة محمّد) ـ على ضلال. ويد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار، رواه الترمذي (3). وعن إبن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إتبعوا السواد الأعظم، فأنه من شذّ شذ في النار (4). وعن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فأن الشيطان مع الفرد، وهو من الأثنين أبعد (5). وعن أسامة بن شريك (6)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أيما رجل يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه، رواه النسائي (1).
____________
(1) القرآن الكريم: 4/115 (سورة النساء). (2) القرآن الكريم: 33/33 (سورة الأحزاب). (3) سنن الترمذي (كتاب الفتن) ـ باب ما جاء في لزوم الجماعة ـ . (4) مسند أحمد بن حنبل: 4/383. (5) سنن الترمذي، حديث 2165. (6) أسامة بن شريك الثعلبي الذبياني، كان من الصحابة، سكن الكوفة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله أجاركم من ثلاث خلال، وعدّ منها: أن تجتمعوا على الضلال (2). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما إجتمعت أمتي على الخطأ (3). وقال علي عليه السلام: في بعض خطبه: عليكم بالسواد الأعظم، وإن الشاذة للذئب (4). وعن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصحابي كالنجوم بأيّهم إقتديتم إهتديتم. وعن رزين، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سألت ربي عن اختلاف أصحابي، فأوحى إليّ: إنّ أصحابك بمنزلة النجوم. بعضها أقوى من بعض، ولكلّ نور، فمن أخذ بما هم عليه من اختلافهم، فهو عندي على هدى (5). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها هلك (6). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو سلك الناس وادياً، وسلك الأنصار وادياً أو شعباً، لسلك وادي الأنصار (7). وعن زيد بن أرقم (، قال: قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً، فقال: أيّها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: كتاب الله فيه الهدى، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، رواه مسلم (9). وعن جابر (10)، قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حجه يخطب، فسمعته يقول: يا أيّها
____________
(1) سنن النسائي (كتاب تحريم الدم)، حديث 3957؛ وصحيح مسلم: 3/1479. (2) سنن أبي داود، حديث 4253. (3) سنن ابن ماجه، حديث 3950. (4) نهج البلاغة، الخطبة (127). (5) كنز العمّال: 1/181، حديث 917. (6) مستدرك الحاكم: 3/150. (7) صحيح مسلم، حديث 135. ( زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، أقام بالكوفة أيام المختار، وتوفي فيها سنة 66هـ، وقيل سنة 67هـ / 687م. (9) صحيح مسلم (فضائل الصحابة)، حديث 4425؛ ومسند أحمد بن حنبل، (مسند الكوفيين)، حديث 8464؛ وسنن الدارمي (فضائل القرآن)، حديث 3182. (10) جابر بن عبدالله الأنصاري، توفي سنة 78هـ / 697م، عن (94) عاماً.
الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، رواه الترمذي (1). وقريب منه ما رواه زيد بن أرقم (2). وعن حذيفة، عن النبي صلّى الله عليه وآله: إقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر (3). وعن جبير بن مطعم (4)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنّ إمرأته قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن لم أجدك فإلى من أرجع، فقال: إئت أبا بكر (5). وعن إبن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وضع الحق على لسان عمر يقول به (6). وعن أبي داود، عن أبي ذرّ، قال: إنّ الحق وضع على لسان عمر يقول به (7). وعن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال: لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب (. وعن سعد بن أبي وقاص أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام: أنتّ مني بمنزلة هارون من موسى (9). وعن عبدالله بن عمرو (10)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء، من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ، رواه الترمذي (11). وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اللهم أدر الحقّ مع علي حيث ما دار، رواه الترمذي (12).
____________
(1) سنن الترمذي (باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، حديث 3786. (2) أيضاً، حديث 3788. (3) أيضاً، حديث 3662. (4) جبير بن معطم بن عدي القرشي النوفلي، توفي سنة 59هـ / 260م. (5) سنن الترمذي، حديث 3676. (6) أيضاً، حديث 3682. (7) أيضاً، حديث 3686. ( سنن الترمذي، حديث 3686. (9) المصدر السابق، حديث 3731. (10) هو ابن عمرو بن العاص السهمي القرشي، صحابي، أقام في مصر، وتوفي في الطائف سنة 63هـ / 683م. (11) سنن الترمذي، حديث 3801؛ وسنن ابن ماجه (المقدمة)، حديث 152. (12) سنن الترمذي (كتاب المناقب)، حديث 3647.
وعن عمار، أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سلك الناس طريقاً، وسلك علي غيره، فأسلك طريق علي عليه السلام. وعن إبن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً. إلى أن قال: فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على إثرهم، وتمسكوا بما استعطعتم من أخلاقهم وسيرتهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، رواه رزين (1). وعن عرباض بن سارية (2)، قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظ ثم قال: إنه من يعيش منكم بعدي فسيرى إختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فأن كل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، (رواه أحمد، وغيره) (3). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه: من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية (4). وعن الحارث الأشعري (5)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من خرج عن الجماعة قدر شبر، فقد خلع ربقة الأسلام من عنقه. وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ من فارق الجماعة قدر شبر مات ميتة جاهلية (6). وعن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أمته تفترق ثلاث وسبعين فرقة، وليس فيها ناج سوى واحدة، فسئل عنها، فقال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي (7). إلى غير ذلك من الأخبار.
____________
(1) صحيح مسلم: 4/1962. (2) عرباض بن سارية السلمي الحمصي، صحابي، اقام في الشام، وتوفي سنة 75هـ / 694م. (3) مسند أحمد بن حنبل (مسند الشاميين)، حديث 16692، 16694، 16695؛ وسنن الدارمي، (المقدمة)، حديث 95؛ والترمذي (كتاب العلم)، حديث 2600؛ وابن ماجه (المقدمة)، حديث 42، 43. (4) وفي النسخة المطبوعة ورد الحديث كالآتي: ((من مات، ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)). صحيح مسلم (كتاب الأمارة)، حديث 3441. (5) هو الحارث بن الحارث الأشعري، صحابي، أقام في الشام. (6) مسند أحمد بن حنبل (مسند الشاميين)، حديث 16718 (ضمن حديث طويل)، وحديث 17344. (7) سنن الترمذي (كتاب الأيمان)، حديث 2565.
ومقتضى ذلك أنه من اللازم الرجوع الى سيرة الصحابة وطريقتهم، وانها الميزان إذا اشتكلت علينا الامور، وتعارضت علينا الأدلة، وسيتضح أن جميع ما ينكر من هذه الأفعال الموردة صادرة عن الصحابة، وطريقتهم مستمرة عليه، مع أن في السنة ما يدل على جوازه. وما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الأسلام بدأ غريباً وسيعود غريبا (1)، فلا ينافي ما ذكرناه، لأن فرقة الأسلام بين طوائف الكفر كنقطة في بحر. وروى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنتم في الناس إلاّ كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود (2). وعوده غريباً في أيام الدجّال، ونحوه يكفي في صدق الخبر. وروى عبدالله بن مسعود (3) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، رواه مسلم (4). وعن أبي سعيد الخدري (5) عن النبي أنه قال: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الدنيا الله (6). وكل ما صدر في زمان الصحابة من الأعراب بمحضر منهم ولم ينكروه، فهو موافق لرضاهم، وإلاّ لأنكروه. ولهذا أوردنا في هذه الرسالة كثيراً مما صدر في زمانهم من غيرهم. وعلى كل حال، فلا كلام في أنّ الأدلة فيها عام، وفيها خاص، وفيها ناسخ، وفيها منسوخ، وفيها مجمل، وفيها مبيّن، وفيها مطلق، وفيها مقيّد، ومنها قطعي الصدور ظني الدلالة، ومنها قطعي الدلالة ظني الصدور، ومنها ظنيهما، ومنها قطعيهما. ومن جهة إختلاف السند: منها صحيح، وضعيف، وحسن، وموثّق، وقوي إلى غير ذلك. فإذا تعارضت الأدلة، فلابدّ من النظر الى المرجحات: من جهة السند، أو من جهة
____________
(1) صحيح مسلم، حديث 145. (2) صحيح البخاري (كتاب تفسير القرآن)، حديث 4464؛ وصحيح مسلم (كتاب الأيمان)، حديث 327؛ ومسند أحمد بن حنبل (باقي مسند المكثرين)، حديث 10892. (3) في صحيح مسلم ورد إسم عبدالله بن عمرو بن العاص. (4) صحيح مسلم (كتاب الأمارة)، حديث 3550. (5) في المصادر ((أنس بن مالك)). (6) مسلم (كتاب الأيمان)، حديث 211؛ والترمذي (كتاب الفتن)، حديث 2133؛ ومسند أحمد (باقي مسند المكثرين)، حديث 11632. وزاد في المصادر كلمة (الله) مرّة ثانية في نهاية الحديث.
الدلالة، أو من جهة سبك العبارة، أو من جهة كثرة الرواية، أو من جهة شهرة الفتوى، أو من جهة موافقة الأصول ومخالفتها، أو من جهة موافقة العمومات ومخالفتها، أو من جهة موافقة الكتاب وعدمها، الى غير ذلك. فاذا فقدت المرجحات، وقامت الحيرة، فلا يبقى مدار إلاّ على سيرة الأصحاب، وطريقتهم، والنظر إلى ما هم عليه صاغراً عن كابر، وما عليه الأول والآخر. وما نحن عليه اليوم من طريقة القوم أكثر الروايات موصلة إليه، وطريقة الأصحاب والصحابة مستمرة عليه، وقد ذكرت منها قليلاً من كثير ليعلم حال السلف، ويرتفع الأنكار على خلفهم. فيا أخي فوحقّ من رفع السماء، وبسط الأرض على الماء، إني لمّا أحببتك لمكارم أخلاقك، وحسن سيرتك مع الناس، وإرفاقك، أخشى عليك من سراية القدح إلى المشايخ الكبار، (1) والعلماء الأبرار، الذين هم للشارع نواب، ولأبواب الشرع بواب (2)، عصمنا الله وإياكم، وكفانا شرّ الجهل وكفاكم، والله الموفق. وأما المقاصد فثمانية:
المقصد الأول : في تحقيق ضروب الكفر
وأقسامه كثيرة: أولها: كفر الأنكار بإنكار وجود الأله، أو إبات أنّ غير الله هو الله، أو بأنكار المعاد، أو نبوة نبينا أشرف العباد. ثانيها: كفر الشرك بإثبات شريك للواحد القهار، أو في النبوة للنبي المختار. ثالثها: كفر الشك، بالشك في إحدى الثلاثة التي هي أصول الأسلام في غير محل النظر، ولا عبرة بالأوهام (3).
____________
(1) في المطبوع: من حمل راية القدح في المشايخ الكبار. (2) في نصّ مخطوطة العبقات: ((لمدائن الشرع أبواب)). (3) في المطبوع زيادة عبارة: ((التي هي كخيالات المنام)).
رابعها: كفر الهتك لهتك حرمة الدين، بالبول على المصحف، أو في الكعبة، أو سب خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم. خامسها: كفر الجحود، بأن يجحد باللسان أصول الإسلام، ويعتقدها بالجنان، قال تعالى: ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)) (1). سادسها: كفر النفاق، بأن ينكر في الجنان، ويقرّ باللسان، كما قال تعالى: ((ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين)) (2). سابعها: كفر العناد، بأن يقر بلسانه، ويعتقد بجنانه، ولم يدخل نفسه في ربقة العبودية، بل يتجرأ على الحضرة القدسية، كأبليس (لعنه الله). ثامنها: كفر النعمة، بأن يستحقر نعمة الله، ويرى نفسه كأنه ليس داخلاً تحت منّة (3) الله. تاسعها: كفر إنكار الضروري (4). عاشرها: إسناد الخلق الى غير الله على قصد الحقيقة. وليست جميع المعاصي العظام مخرجة عن الإسلام، فأنّ المعاصي لا تنفك على الدوام، حتى في مبدأ حدوث الأسلام، ولذلك وضعت الحدود والتعزيزات، وأقيمت الأحكام على ممر الأوقات. نعم قد يطلق على كثير منها إسم (الكفر) تعظيماً للذنب، وتحذيراً منه، وتشبيهاً لمؤاخذته، لعظمها بمؤاخذة الكفر. فهو إذن في الشرع قسمان: كفر صغير، لا يخرج عن إسم الأسلام. وكبير مخرج عن إسمه بلا كلام. ولو بنينا على أنّ كلّ ما أطلق عليه إسم الكفر يكون مكفراً، لم تنج إلاّ شرذمة قليلة من الورى. فأطلاق إسم الكفر قد يكون إستعظاماً للذنب ـ كما مرّ ـ ، وقد يراد أنه ربما إنجرّ بالأخرة الى ذلك. كما ورد في الحديث: إنّ في قلب المؤمن نكتة بيضاء، فاذا عصى
____________
(1) القرآن الكريم: 27/14 (سورة النمل). (2) القرآن الكريم: 2/8 (سورة البقرة). (3) في المطبوع: نعمة. (4) في المطبوع: الأنكار للضروري.
الله إسودّ منها جانب، وهكذا إلى أن يتم سوادها، فذلك الذي طبع الله على قلبه(1). ومما يدل على أن لفظ (الكفر) يطلق على سائر المعاصي كثيراً في كلام الشارع منها: ما رواه أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا دين لمن لا عهد له (2). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن (3). وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن علامة النفاق الكذب، وسوء الخلق، والخيانة (4). وعن عبدالله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ النفاق عبارة عن أربع: الخيانة، والكذب، والغدر، والفجور (5). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن المرآء في القرآن كفر (6). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يترك (7) حضور الجماعة إلاّ منافق (. وعن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه (9). وعن عبدالله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الرقي والتمائم من الشرك (10). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من قال: مطرنا بكوكب كذا، فهو كافر (11).
____________
(1) الموطأ (باب الكلام)، باب (18). (2) مسند أحمد بن حنبل: 3/135، 154، 210، 251. (3) صحيح البخاري (كتاب الأشربة)، حديث 5256؛ وصحيح مسلم (كتاب الأيمان)، حديث 86؛ والنسائي (كتاب قطع السارق)، حديث 4787. (4) صحيح مسلم، حديث 107. (5) أيضاً، حديث 106. (6) سنن أبي داود (كتاب السنّة)، حديث 4؛ ومسند أحمد بن حنبل (الباب الثاني)، حديث2، 258، 286. (7) في المطبوع: يفوّت. ( صحيح مسلم: 1/451. (9) البيهقي: 10/187. (10) المستدرك للحاكم: 4/217. (11) صحيح مسلم: 1/84.
وعن زيد بن خالد (1)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه من قال: مطرنا بنوء كذا، فهو كافر (2). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أتى حائضاً أو امرأته في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمّد، رواه الدارقطني، وابن ماجة، والترمذي (3). وروى عن عمر بن لبيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الرياء الشرك الأصغر (4). وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الرياء الشرك الخفي (5). وعن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ يسير الرياء شرك. وعن شداد بن أوس (6)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من صلّى برياء (7)، فقد أشرك، ومن صام برياء، فقد أشرك، ومن تصدّق برياء، فقد أشرك. وروي: إنّ تارك الصلاة كافر (، إلى غير ذلك. بل قلّما يسلم شيء من المعاصي من إطلاق إسم الكفر، فلا تبقى ثمة حدود ولا تعزيرات، ولزم الحكم بالأرتداد، وكفر العباد، ولا ينجو من الكفر إلاّ قليل من الأحياء والأموات، ولنادت الخطباء بذلك على رؤوس الأشهاد، ولشاع ذلك في أقاصي البلاد، مع أن المعهود من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين معاملة الناس على الأكتفاء بأظهار الشهادتين. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا الشهادتين. وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحنّاء، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: يتشبّه بالنساء، فنفاه إلى (البقيع)، فقيل: يا رسول الله ألا تقتله؟ فقال: نهيت عن قتل المصلّين.
____________
(1) زيد بن خالد الجهني المدني، أبو عبدالرحمن، صحابي، أقام بالكوفة، وتوفي في المدينة سنة 68هـ / 687م. (2) صحيح مسلم (باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء). (3) سنن ابن ماجه: 1/209، حديث 639، وسنن الترمذي: 1/243. (4) مسند أحمد بن حنبل: 5/428. (5) ابن ماجه: 2/1406، حديث 4204. (6) شدّاد بن أوس بن ثابت الخزرجي، توفي سنة 58هـ/678م عن (75) عاماً. (7) في المطبوع: ((وهو يرائي)). ( سنن ابن ماجه: 1/342.
وروى عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ قتال المسلمين كفر (1). وعن إبن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن نسبة المسلم الى الكفر كفر (2). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم (3). وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فأن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله (4). وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله (5). الى غير ذلك من الأخبار. وليس غرضي أنه لا طريق للكفر سوى ذلك، ولكن يستفاد منها أنه بعد إظهار الشهادتين يبنى على الإسلام ما لم يعلم شيئاً ينافيه، ولا حاجة الى التجسس، بل نهى الله تعالى عنه. وبيان الأمر على التحقيق: هو أنه قد علم أنّ لسان الشارع جارٍ على نحو لسان العرب، ففيه حقائق، ومجازات، وإستعارات، وكنايات، وخطابات، تشتمل على المبالغات، كما أنّ لساننا يشتمل على ذلك من غير إنكار، فأنّ الذنب إذا صدر من شخص وأردنا إستعظامه، صحّ لنا أن نسمّيه كفراً، وأن نسمي فاعله كافراً. ولا يزال ذلك يقع على مرور الأزمان من أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الآن، مع أنه ليس في ذلك إنكار، بل قد يعدّ من أفعال الأبرار، على أنّ كلّ من صدر منه ذنب ولو صغير، لم يف بجزاء نعم اللطيف الخبير. فأطلاق الكفر لعله من باب الكفر ببعض النعم الذي هو كفر صغير. على أنّ أنظار الأنبياء والأولياء ليس الى المعاصي، حتى يكون فيها صغير وكبير، بل إلى من عصاه الناس وهو اللطيف الخبير.
____________
(1) صحيح مسلم: 1/81. (باب بيان قول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). (2) صحيح مسلم: 1/79. (باب بيان حال ايمان من قال لأخيه المسلم يا كافر). (3) مسند أحمد بن حنبل: 2/465. (4) صحيح مسلم: 1/53، حديث 36. (5) النسائي (باب المناسك)، حديث 211.
فإذا لاحظت أنّ المعصية كانت في حق الله، تجدها ـ ولو صغرت ـ أكبر من الجبال الرواسي، حتى أنه بلسان الورع والتقوى دون الفقه والفتوى، ربما لا يفرق بين الصغائر والكبائر. بل ربما نقل عن بعض الأولياء أنه لا فرق بين المكروه والحرام، والمسنونات وفرائض الأحكام، قال: لأنّ الكلّ مطلوب للملك العلام. وإذا بني على هذا إستحسن هذا الاطلاق، وحسن إطلاق إسم المعاصي والمحرمات على فعل المكروهات، والفرائض والواجبات على فعل المستحبات والمندوبات، وكبائر الخطيئات على صغائر التبعات، والكفر والكفار على كل من عمل ما يوجب دخول النار. ولولا ذلك للزم كفر أكثر من في الأرض، لأنّه قلّما خلت معصية من هذا الغرض، ولو علمنا بجميع ظواهر الأخبار، لاختلت علينا أحكام ملّة النبيّ المختار، وفقنا الله واياك، وهدانا الله إلى الحق وهداك (1).
المقصد الثاني : في تحقيق معنى العبادة
لا ريب أنه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلاّ لله، ومن أتى بها لغير الله، فقد كفر مطلق الخضوع والخشوع والانقياد، كما يظهر من كلام أهل اللغة، وإلاّ لزم كفر العبيد والأجراء، وجميع الخدام للأمراء، بل كفر الأبناء في خضوعهم لللآباء، وجميع من تواضع للإخوان، أو لأحد من أصحاب الأحسان. وإنما الباعث على الكفران، الأنقياد لبعض العباد مع إعتقاد إستحقاقهم ذلك بالأستقلال من دون توجه الأمر من الكريم المتعال، وأنّ لهم تدبيراً واختياراً. ولفظ (العبد) و (العبادة) قد يطلق على مطلق المطيع والطاعة، فقد ورد: أنّ العاصي عبد الشيطان، وإنه عبد الهوى. وإن الأنسان عبد الشهوات، وإنّ من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده. ثم من إتبع قول قائل لأنه مخبر عن غير، فهو عابد للمخبر عنه، لا للمخبر. ومن خدم شخصاً بأمر آمر، فالمعبود هو الآمر، ومن تبرّك بشيء لأمره، كان ذلك من عبادة الآمر. فالملائكة في سجودهم لآدم، ويعقوب في سجوده ليوسف، والناس في تقبيلهم
____________
(1) في المطبوع: وفّقنا الله وإياكم، وهداك إلى الحق المبين.
للحجر الأسود والأركان، لم يعبدوا سوى من أمرهم بذلك. ثم السجود والخضوع لعروض بعض الأسباب، لا ينافي الأخلاص لربّ الأرباب. روى أبو داود والترمذي، عن عكرمة، قال: قيل لأبن عباس: ماتت (فلانة)) ـ بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، فخرّ ساجداً، فقيل له: تسجد في هذه الساعة؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رأيتم آيةً فاسجدوا، وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1). فعلى هذا لو سجد من رأى ميتاً أو، قبراً، أو شيئاً عجيباً، ذاكراً لعظمة الله ـ كما يصنعه بعض العارفين ـ لم يكن به بأس. وعبادة الأصنام وبعض الصالحين، مع نهي الأنبياء والمرسلين الذين دلّت على صدقهم المعاجز (2) والبراهين، محض عناد وخلاف على رب العباد، ولو أنهم أخذوا عن قول الله ورسله، لم يكن عليهم إيراد. كما أن (السيد) لو قال لعبده: تبرك بثياب (فلان)، ونعله، وترابه، ففعل، كان عابداً للمولى. وأمّا لو نهاه المولى، أو أخذ بمجرد الظن الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً، أو الخرص (3)، لكان عاصياً مخالفاً. ألا ترى أنّ من جعل المرضعات أمهات، ليس كمن جعل المصاهرات، ومن حرم الوصيلة، والسائبة، والحام (4) ، ليس كمن حرم الجلالة (5) من الأنعام. وليس تحريم الأشهر الحرام كتحريم غيرها من باقي أشهر العام، وليس صيام آخر شهر رمضان كصيام أول شوال. كل ذلك للفرق بين الأمر والأختراع، والقول بمجرد
____________
(1) سنن أبي داود: 1/311، حديث 1197؛ وسنن الترمذي: 5/665، حديث 3891. (2) في المطبوع: المعجزات. (3) الخرص: الحدس، والكذب والأفتراء. (4) من معتقدات العرب أنّ الوصيلة من الغنم (وهي الشاة) إذا ولدت أنثى فهي لهم، واذا ولدت ذكراً ـ أوقفوه لآلهتهم، فان ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. أمّا السائبة فقد كان الرجل إذا نذر القدوم من سفر، أو الشفاء من علّة، فانّ ناقته ستكون سائبة (أي لا تستخدم للانتفاع بها، ولا تخلّى عن ماء، أو تمنع عن مرعى). والحام هو الذكر من الأبل اذا اانتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قال العرب قد حمى ظهره، فلا يحمل عليه. وقد حرّم القرآن هذه المعتقدات كما ورد في سورة المائدة، آية (103) قوله تعالى: ((ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون)) . والبحيرة هي الشاة التي تبحر أذنها (أي تشق) علامة على تحريم الانتفاع بها. (5) الحيوان الجلال: هو الذي يأكل العذرة، وقد ورد النهي عن أكل لحمه، وشرب لبنه.
الأبتداع (1). ثم (العبادة) تختلف بأختلاف النيّات، فمن قصد حقيقة العبادة إختراعاً وابتداعاً، ومخالفة لأمر الله سبحانه كان كافراً، سواء قصد القرب إلى الله زلفى أو لا، بل هذا في الحقيقة عين العناد والشقاق بعد نهي الأنبياء والرسل. كما قال قوم (شعيب) له: ((يا شعيب أصلاتك تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)) (2). وقال الصدّيق: ((يا صاحبي السّجن أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهّار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم)) (3). وحكى الله عن قوم نوح وعاد وثمود أنّهم ردّوا أيديهم في أفواههم، وقالوا: ((إنّا كفرنا بما ارسلتم به وإنا لفي شكّ ممّا تدعوننا إليه مريب)) (4) الى غير ذلك من الآيات الدالة على ردّهم على الأنبياء، وبنائهم على الأختراع والأبتداع. وفي الأحتجاج: في حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أقبل في مشركي العرب، فقال لهم: وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله؟ فقالوا: نتقرب بها الى الله زلفى، فقال: أو هي سامعة مطيعة عابدة لربها حتى تتقرّبوا بها إلى الله؟ قالوا: لا، قال: أفأنتم نحتموها بأيديكم؟ فقالوا: نعم، قال: فلئن تعبدكم هي أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العالم بمصالحكم، وعواقبكم، والحكيم فيما يكلّفكم (5). فإذا كان الله قد نهى على لسان أنبيائه عن عبادة الأصنام والصالحين من الأنام، على نحو عبادة الصلاة والصيام، ففعلهم بعد ذلك رد لكلام العليم العلام. وكشف الحيققة: إنّ العبادة إن أريد بها مجرد الأمتثال والطاعة، كانت الزوجة، والأمة، والعبد، والخادم، والأجير، ونحوهم، عابدين لغير الله. وإن أريد الأمتثال والأنقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة، لا بواسطة أمر غيره،
____________
(1) في المطبوع: للفرق بين الأمر والاتباع، والقول بمجرد الأختراع والأبتداع. (2) القرآن الكريم: 11/87 (سورة هود). (3) القرآن الكريم: 12/39 ـ 40 (سورة يوسف). (4) القرآن الكريم: 14/9 (سورة إبراهيم). (5) أوردها أحمد بن علي الطبرسي (من علماء القرن الخامس الهجري) في كتاب الاحتجاج: 1/26.
فأين ذلك من أفعال المسلمين. فأقسم عليك بمن سلّطك على طائفة من عباده، ومكّنك من كثير من بلاده، أن تخلّي نفسك من حب الأنفراد، الباعث على الأمتياز بين العباد، وتحذر من قولهم. ((لكل جديد لذّة))، و((خالف تعرف). كما أني أحذّر نفسي، وأصحابي من حبّ إتباع الآباء والأجداد، وإرادة الدخول في الجماعة، وكراهة الإنفراد. وأمّا ما صدر من أهل الإسلام، فإنّما هو عن أمر زعموه، فأن كان حقاً أثيبوا، أو كان خطأ فكذلك. فأين حال المسلمين من حال من جعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، واتخذ الملائكة أربابا، واتخذ بعض المخلوقين أنداداً وشركاء، يعبدون من دون الله أو مع الله، إمّا لأهليتهم، أو لترتب التقرب الى الله زلفى من دون أمر الله لهم بذلك، قال تعالى: ((ما أنزل الله بها من سلطان)) (1). وروي أنّ (قريشاً) كانوا يعبدون الأصنام، ويقولون: ليقربونا الى الله، ولا طاقة لنا على عبادة الله. وسيجيء في بعض المقامات الآتية ما يكشف عن حقيقة ذلك. وإن أردت تمام الكلام في هذا المقام، فأنظر بعين البصيرة إلى ما نحاول في هذا المقام تحريره. إعلم أنّ الألفاظ اللغوية والعرفية العامّة، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة، فتلك لا تحتاج إلى بيان، سواءً وردت في السنّة أو القرآن. وأمّا إذا نقلت عن المعاني الأولية إلى غيرها، أو إستعملت في المعاني الثانوية على وجه المجازية، فهي من المجمل المحتاج الى البيان، كلفظ الصلاة والصيام والحج، فأنه لو لم يبينها الشرع لبقيت على إجمالها، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والأمساك والقصد، بل معنى جديد، تتوقف معرفته على بيان وتحديد. ومن هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما، فأنه لا يراد بهما في لحوق الشرك بهما المعنى القديم، وإلاّ للزم كفر الناس من يوم آدم إلى يومنا هذا. لأنّ العبادة بمعنى الطاعة، والدعاء بمعنى النداء والأستغاثة للمخلوق لا يخلو منها أحد. ومن أطوع من العبد لسيده، والزوجة لزوجها، والرعية لملوكها، ولا زالوا ينادونهم،
____________
(1) القرآن الكريم: 12/40 (سورة يوسف).
ويطلبون إعانتهم ومساعدتهم، بل الرؤساء لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم ويندبونهم. فعلم أنّه لا يراد بهذه المذكورات، المعاني السابقات، وتعيّن إرادة المعاني الجديدة، فصارت بذلك من المجملات والمتشابهات، فلا يجوز الحكم بمقتضاها، إلاّ في الموضع المعلوم دون المشكوك والموهوم. وإنّما هو خطاب الوضيع لمن شأنه رفيع، على أن يكون ملك التصرف، أو خدمته الخاصة لرفعته الذاتية، وشرافته الأصيلة، من دون أمر آمر، ولا تكليف مكلف، بل من مجرد الأبتداع والأختراع. وأما ما كان عن أمر آمر، فالمعبود هو الآمر، ولا فرق بين أن يقول: ضع جبهتك في الصلاة على الأرض، أو على بدن إنسان، أو غير ذلك، وبين أن يقول: ضعها على (قبر) كذا، أو (حجر) كذا. وإنّما كفّر عبدة الأصنام، لأنهم فعلوا ما يعدّ عبادةً من دون أمر الله، ولأنهم خالفوا أنبياء الله في نهيهم عن تلك الأشياء، فكانت قصد تقربهم فيما نهى الله عنه. إمّا بناء على أن الأصنام للجبار قاهرون، فيقربونهم قهراً، أو كان إستهزاءً بالرسالة، وتكذيباً لهم، وكل من الكفرين أعظم من الآخر، فأنّ المتقربين محصّل كلامهم أنّا نخالف أمر الله، وأمر رسوله ونعبد ما نهينا عن عبادته ليقربنا إلى الله.
المقصد الثالث: في الذبح لغير الله
لا يشك أحد من المسلمين في أنّ من ذبح لغير الله ذبح العبادة (كما يذبح أهل الأصنام لأصنامهم حتى يذكروا على الذباءح أسماءهم، ويهلون بها لغير الله) ـ خارج عن ربقة المسلمين، سواء إعتقدوا آلهيتهم، أو قصدوا أن يقربوهم زلفى، لأنّ ذلك من عبادة غير الله تعالى. وأما من ذبح عن الأنبياء أو الأوصياء، أو المؤمنين ليصل الثواب إليهم، كما يقرأ القرآن ويهدى إليهم، ونصلي لهم وندعو لهم، ونفعل جميع الخيرات عنهم، ففي ذلك أجر عظيم، وليس قصد أحد من الذابحين للأنبياء أو لغيرهم سوى ذلك.
أما العارفون منهم، فلا كلام. وأمّا الجهّال، فهم على نحو عرفائهم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذبح بيده، وقال: اللّهم هذا عنّي، وعن من لم يضح من أمتي. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي (1). وفي سنن أبي داود أنّ علياً كان يضحّي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكبش، وكان يقول: أوصاني أن أضحي عنه دائماً (2). وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصاني أن اضحي عنه (3). وعن بريدة، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن إمرأةً سألته هل تصوم عن أمّها بعد موتها؟ وهل تحج عنها؟ قال: نعم (4). وعن إبن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: تقضي البنت نذر أمّها (5). وروي أنّ العاص بن وائل أوصى بالعتق فسأل إبنه عمرو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن العتق له، فأمره به. وروي عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عند الذبح: اللّهم تقبل من محمّد، وآله، وأمته. والحاصل لا كلام ولا بحث في أنّ أفعال الخير تهدي إلى الموتى، ومن أولى بالهدايا من أنبياء الله وأوصيائه، فليس الذبح لهم وبأسمهم، حتى يكون الأهلاك لذكرهم، وإنما ذلك عمل يهدي إليهم ثوابه كسائر الأعمال، حتى أنّه لو ذكر إسمهم على الذبيحة، كان ذلك عند المسلمين منكراً، فهو ذبح عنهم لا لهم. وإني ـ والذي نفسي بيده ـ منذ عرفت نفسي إلى يومي هذا، ما رأيت، ولا سمعت أحداً من المسلمين ذبح أو نحر، ذاكراً لأسم نبي، أو وصي، أو عبد صالح، وإنّما يقصدون إهداء الثواب إليهم، فإن كان في أطرافكم قبل تسلّطكم مثل ذلك، (فصاحب الدار أدرى بالذي فيها). ولا شك أنّ نجداً وأعرابها قبل أن تظهروا فيها أمر الصلاة والصيام، وتأمروهم بالملازمة
____________
(1) مسند أحمد بن حنبل: 3/356؛ وسنن أبي داود: 3/99، حديث 2810؛ وسنن الترمذي: 4/77، حديث 1505. (2) سنن أبي داود: 3/94، حديث 2790. (3) مسند أحمد بن حنبل: 1/150. (4) صحيح مسلم: 2/805، حديث 1149. (5) سنن ابن ماجه: 2/904.
لعبادة الملك العلام، كانوا كالأنعام أو أضلّ سبيلاً، وقد رفع الله عنهم الشقاق، وحصل بينهم الاتفاق، وفرّقوا بين الحلال والحرام، وتوجهوا لأوامر الملك العلام. ويؤيد ذلك ما رواه إبن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اللّهم بارك لنا في شآمنا، الله بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا، فقال: اللّهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا، ثم قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: هناك موضوع الزلازل والفتن، وبها (مطلع) قرن الشيطان، رواه البخاري (1). وإلحاق غير أهل (نجد) بهم من قياس الشاهد على الغائب. وكيف يخفى على فحول العلماء، وأساطين الفقهاء الذين أقاموا الجمعات والجماعات، وأقاموا الأحكام، وأوضحوا الشبهات، وأمعنوا نظرهم في فهم الآيات والروايات، أنّ الذبح لا يكون إلاّ لجبّار السموات؟ مع أنّ ذلك تلقّاه عن الأكابر الأصاغر، وعن الأوائل الأواخر. فلم يزل أهل الأسلام من قديم الأيام يذبحون للأنبياء والأوصياء والعباد الصالحين، ويهدون الثواب إليهم طلباً لمرضاة رب العالمين. وإختيارهم للأماكن الشريفة، كحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحوه، لما ورد من أنّ الأعمال يتضاعف أجرها لشرف الزمان والمكان، كشرف الكوفة. روى الأصبغ بن نباتة (2) عن أمير المؤمنين عليه السلام أن الخضر قال له: إنّك في مدينة لا يريدها جبار بسوء إلاّ قصمه الله. وروي أنّ البركة فيها على إثني عشر ميلاً من سائر جوانبها. وإن المسلمين كافة يتبرؤون ممن يدعو غير الله، أو يستغيث بغير الله، أو يذبح وينحر لغير الله، أو يحلف بغير الله، على النحو الذي وقع في نظركم أنهم يقصدونه ويتعمدونه، ومعاذ الله أن يكونوا كذلك. والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لو علمت منهم ذلك، لكفرتهم، وهاجرت عنهم، معتقداً وجوب ذلك عليّ، لكن وحقّ من إشتقّ من ظلمة العدم نور الوجود، ما وجدت ذلك منهم، ولا صدر ذلك عنهم، ولا بأس عليكم فربّما إفترى الحاضرون لديكم تقرباً بذلك إليكم، فأقتصر على حدودك التي أنت فيها، فأنّ النفس إذا قنعت، قليل من الدنيا يكفيها.
____________
(1) صحيح البخاري: ج9 (باب الفتن)، حديث16؛ وسنن الترمذي (كتاب المناقب)، حديث 73. (2) الأصبغ بن نباتة المجاشعي التميمي الكوفي، توفي أوائل القرن الثاني الهجري.
وفي المشكاة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم (1). وبعد التأمل الصادق لا نجد ـ عند من شاهدناه ممن يدعي وينتسب إلى ملّة سيد الأنام ـ ذبحاً، ولا نحراً، ولا نذراً، ولا عتقاً ولا تصدقاً، ولا وقفاً، ولا شيئاً من العبادات مما يتعلق بالماليات أو البدنيات، ولا توسلاً، ولا تقرّباً، إلا إلى جبّار الأرضين والسماوات، ولو أعلم ذلك منهم قبلت كلمة الأسلام الصادرة عنهم. فمهلاً يا أخي مهلاً مهلاً، فأن القوم ليس حالهم كما وصل إليكم، وورد عليكم، فإني بهم خبير، وبأحوالهم بصير، وليس غرضي تزكيتهم، ولكن ـ والله ـ هذا الذي علمته من سيرتهم، والله الموفق.
المقصد الرابع في النذر لغير الله
هذا المقام من مزال الأقدام، وإنما كثرت فيه الأقاويل، لخفاء الموضوع إلاّ على القليل، فإنّه لا ينبغي الشك في أنّ النذر لغير الله على أنه أهل لأن ينذر له، لأنه مالك الأشياء وبيده زمامها من الكفر والشرك، لأنّ النذر من أعظم العبادات، وإن اريد أنه ينعقد بذلك وإن لم يذكر إسم الله عليه فهي مسألة فقهية فرعية. واعتقاد ذلك لا عن دليل تشريع حرام، لا يخرج عن ملة الأسلام. وليس المعروف في هذه البلدان النذر لغير الله إلا على معنى انه صدقة يهدى ثوابها إلى أولياء الله، فمعنى النذر للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً أنه صدقة منذورة يهدى ثوابها له، وهكذا النذر لسائر الأولياء. فلا يزيد هذا على من نذر لأبيه وأمّه، أو حلف، أو عاهد أن يتصدق عنهم، كما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال للبنت التي نذرت لأمّها عملاً: ف بنذرك (2).
____________
(1) صحيح البخاري (كتاب المغازي)، حديث 17؛ و(كتاب الجهاد)، حديث 38؛ وصحيح مسلم (كتاب الزكاة)، حديث 121؛ وسنن ابن ماجه (كتاب الفتن)، حديث 18؛ ومسند أحمد بن حنبل، الباب الخامس، حديث 48. (2) صحيح البخاري (كتاب الاعتكاف)، حديث 5، 6، 16؛ وصحيح مسلم (كتاب الأيمان)، حديث 27؛ سنن أبي داود (كتاب الأيمان)، حديث 22؛ سنن الترمذي (كتاب النذور)، حديث 12؛ وابن ماجه (كتاب الطلاق)، حديث 36.
فأن كان النذر للآباء والأمهات كفراً، كان هذا كفراً، وإلاّ فلا. فمن حاول بالنذر حصول الثواب والتقرب إلى الله زلفى من المنذور له، على أن يكون الفعل له لا على أن يكون الثواب له، فهو ضال مضل. وأمّا من قصد خلاف ذلك، فلا بأس عليه. واختيار بعض الأمكنة للنذور طلباً لشرف المكان، حتى يتضاعف ثواب العبادة، كما يختار بعض الأزمنة لبعض العبادات، لا بأس به، بل لا بأس بتخصيص بعض الأمكنة المباركة، وهو مستفاد من الأخبار، كما لا يخفى على من حام حول الديار. روى ثابت بن الضحّاك (1)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً سأله أنه نذر أن يذبح ببوّانة، قال: هل كان فيها وثن يعبد؟ قال: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ فقال: لا، فقال: ف بنذرك (2). ثم إني أعلم والله أنك لو وضعت منادياً ينادي في بلاد الإسلام، ويعلن بصوته في كل مقام، ليجد شخصاً يعدّ من نوع الأنسان يقصد بنذره غير وجه الملك الديّان، لرجع إليك صفر اليدين، ولم يجد ناذراً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو الصحابة، أو الحسنين عليهما السلام. وكيف يقصدونهم بنذورهم وعباداتهم مع علمهم بمماتهم؟ وإذا دخلوا إلى مواضع قبورهم قرأوا لهم القرآن، وأهدوا إليهم من صلاتهم بعض ما كان، ودعوا لهم برفعة الدرجات، وزيادة الأجر عند رب السماوات، فأن كانوا معبودين باعتقادهم، فكيف يهدون إليهم عبادة العبيد؟! ليت شعري كم من الفرق بين من يعبد ليقرّب الى الله زلفى، وبين من يعبد الله عنه ليقرّبه الله زلفى. والله ما نذرت نذور، ولا جزرت جزور، ممن يتصف بالأيمان، ويقرّ بالشهادتين بالقلب واللسان، إلا لوجه الملك الديّان، وطلباً لرضى الواحد المنان. فمن كانت هذه مقاصدهم، وعلى ذلك بنوا قواعدهم، كيف ينسبون الى عبادة غير الله، ويشبهون بعبدة الأصنام المثبتين شريكاً للملك العلام؟! ليت شعري لو أنّ الرسل جاءت بالسجود للأحجار، أو لبعض الكواكب والأشجار،
____________
(1) ثابت بن الضحّاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي الأنصاري مات سنة 45هـ / 665م. (2) سنن أبي داود (كتاب الأيمان)، حديث 22؛ سنن ابن ماجه (باب الكفارات)، حديث 18؛ مسند أحمد بن حنبل، الباب الأول، حديث 90.
لم يكن ذلك السجود إلاّ عبادة للملك الجبار، لأنّ الطاعة لللآمر لا لمن يكن له في ذلك الأظهار. ولو أنّ الناظر لصور الكواكب وهيئة الأفلاك، تدبّرها تفكّراً في عظمة الخالق، وسجد، كان عابداً لمدبرها. ثم ليس المراد بالعبادة مجرد الخضوع والتذلل، كما هو المعنى القديم، بل يراد معنى جديد، وهو التذلّل الخاص، على شرط أن يكون في كمال الصفاء والأخلاص. وعلى فرض أن يصدر من بعض أعوام المسلمين، لعدم قربهم من محال العلماء العاملين. فلا ينبغي معاملة الجميع بهذه المعاملات، والبناء على نسبتهم إلى الشرك من دون قيام البينات. فقف يا أخي في مواضع الشبهات، لئلاّ تقع في الهلكات. وإني ـ والله ـ فرح مسرور بدفعك عن أبناء السبيل كل محذور، وأمرك بالصلاة والصيام، وإنفاذ ما شرع النبي (صلى الله عليه) من الأحكام، إلاّ أني أخشى عليك أن تأخذ العالم بذنب الجاهل، والمنصف بورطة المعاند المجادل. وفقنا الله لطريق الصواب، والفوز برضاه في يوم الحساب، فأنه أرحم الراحمين.
المقصد الخامس: القسم بغير الله
لا يرتاب مسلم في أنّ القسم بغير الله، على وجه إرادة صاحب العظمة والكبرياء والملكوت والقدرة والجبروت، باعث على الخروج عن ربقة المسلمين. وأما إرادة مجرد التأكيد، فلا يلزم منه كفر ولا إشراك بديهةً، إذ ليس مدار الكفر على مجرد العبارات، ويدل على ذلك أنه قد ورد القسم بغير الله متواتراً في كلام الصحابة والتابعين، بل في كلام خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم. ففي كتاب علي عليه السلام إلى معاوية: لعمري لأن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدني أبرأ الناس من دم (عثمان) (1).
____________
(1) نهج البلاغة: 367 .
وفي كلام له آخر: وأما تحذيرك إياي أن يحبط عملي وسابقتي في الإسلام، فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لك أن تحذِّرني ذلك. وفي كتاب معاوية: فأن كنت أب
وإن لكلّ من الحق والباطل مأخذاً، كما روي: إنّ لكل حق حقيقة، ولكل صواب نوراً، فمن أراد الحق إهتدي إليه، ومن أراد الباطل كان له ميدان في المجادلة عليه. فمن خرج عن جادة الأنصاف، وسلك طريق الغي والأعتساف، ولم يرجع الي سيرة الصحابة والتابعين، أمكنه أن يستند الى ظاهر القرآن المبين، فيما يخرج عن شريعة سيد المرسلين. فأن (الوعيدية) المنكرين للعفو، الموجبين للمؤاخذة على المعاصي، يمكنهم الإستدلال بآية سورة الزلزال ((فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعلم مثقال ذرّة شراً يره)) (2)، و (الوعدية) القائلين برفع المؤاخذة بالكلية، وان الله لا يعاقب على معصية، لهم الإستناد
____________
(1) وفي نسخة (البندق)، ويقصد بها البنادق. (2) القرآن الكريم: 99/7 ـ 8 (سورة الزلزلة).
الى قوله تعالى: ((يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذّنوب جميعاً)) (1)، ووعده لا خلف فيه. والمثبتون للرؤية في الآخرة يستندون الى قوله تعالى: ((وجوه يومئذ ناضرة الى ربّها ناظرة)) (2)، والنافون الى قوله تعالى: ((لا تدركه الابصار وهو يدرك الأبصار)) (3). والقائلون بأن الله على العرش بآية ((على العرش استوى)) (4)، والنافون بقوله تعالى: ((إنّ الله معنا)) (5) و ((إنّ معي ربّي سيهدين)) (6) ((وما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم)) (7). والقائلون بالتجسيم على الحقيقة يستندون الى مثل قوله: ((يد الله فوق أيديهم)) (، والنافون الى قوله ((ليس كمثله شيء)) (9) ونحوها. والقائلون بجواز المعصية على الأنبياء يستندون الى مثل قوله تعالى: ((وعصى آدم ربّه فغوى)) (10)، والنافون بمثل قوله: ((لا ينال عهدي الظّالمين)) (11). والقائلون باستناد جميع الأفعال إلى الله، استندوا إلى قوله: ((خالق كلّ شيءٍ)) (12) وقوله: ((كلّ من عند الله)) (13). والآخرون الى قوله ((ما أصابك من حسنةٍ فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك)) (14). والقائلون بأن الكفار مخاطبون بالفروع بعموم ((يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم)) (15)، والنافون لذلك لخطاب ((يا أيّها الّذين آمنوا)) (1) الى غير ذلك.
____________
(1) القرآن الكريم: 39/53 (سورة الزمر). (2) القرآن الكريم: 75/23 (سورة القيامة). (3) القرآن الكريم: 6/103(سورة الأنعام). (4) القرآن الكريم: 20/5 (سورة طه). (5) القرآن الكريم: 9/40 (سورة التوبة). (6) القرآن الكريم: 26/62 (سورة الشعراء). (7) القرآن الكريم: 58/7 (سورة المجادلة). ( القرآن الكريم: 48/10 (سورة الفتح). (9) القرآن الكريم: 42/11 (سورة الشورى). (10) القرآن الكريم: 20/121 (سورة طه). (11) القرآن الكريم: 2/124 (سورة البقرة). (12) القرآن الكريم: 6/102 (سورة الأنعام). (13) القرآن الكريم: 4/78 (سورة النساء). (14) القرآن الكريم: 4/79 (سورة النساء). (15) القرآن الكريم: 2/21 (سورة البقرة).
وكذا في الفروع الفقهية، فأنّ كلاً من الفقهاء له مأخذ من الكتاب والسنة، مغاير لمأخذ صاحبه، كما لا يخفى على المتتبع، فلمن أراد أن يبيح جميع الأشياء قوله تعالى: ((خلق لكم ما في الأرض)) (2) ومن قصر التحريم على أربعة استند الى ما دل على تحليل جميع الأشياء ما عدا الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهلّ به لغير الله، من جميع ما خلق الله. والحاصل أنّ كلّ من أراد العناد والعصبية، فله مدرك يتشبث به من آية قرآنية، أو سنّة محمّدية، ويكون صاحب مذهب ورأي، يباحث الفضلاء، ويناظر أساطين العلماء، ما لم يكن له حاجب من تقوى الله. ولقد أجاد بعض القدماء، من فحول العلماء حيث يقول: إنّ المسائل الشرعية عندي بمنزلة الشمع اللّين، أصوّره كيف شئت لولا تقوى الله. ونقل أنّ بعض الفضلاء أخذ قطعةً من قرطاس في محفل من الناس، فأورد عليهم براهين على أنّها قطعة ذهب، حتى اقرّوا بذلك. ولكن من أراد رضا الجبار، ورجا الفوز بالجنة، وخاف عذاب النار، ينظر الى المعادلة في الدلالات، ثم ينظر المرجحات الخارجيات، وأولاها التأمل في طريقة الصحابة وسيرتهم، فأنّها أعظم شاهد على ما حكم به الجبار، وجرت عليه سنّة النبيّ المختار صلى الله عليه وآله وسلم فأنّ لكل ملّة طريقةً يرجعون إليها، ويعوّلون عند وقوع الأشتباه عليها. وقد يحصل العلم بما عليه الأمراء، من النظر الى عمل أتباعهم، وأشياعهم، ورعاياهم، وخدمهم، وحشمهم، لأنّ الأثر يدل على مؤثره، والمنتهى يدل على مصدره. وبعد العهد بيننا وبين زمان (الصدور)، ربّما أخفى علينا كثيراً من الأمور، فاذا حصل الأجماع والأتفاق، إرتفع النزاع والشقاق، وكذلك إذا اشتهر أمر بين السلف وظهر، فلا وجه للأنصراف عنه الى ما شذّ وندر. فقد علم أنّ الميزان الذي لا عيب فيه، ولا نقص يعتريه، هو الرجوع الى كلام الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، لأنه موضح وكاشف لحكم سيد المرسلين.
____________
(1) القرآن الكريم: 2/104 (سورة البقرة). (2) القرآن الكريم: 2/29 (سورة البقرة).
ولمّا اختلفت الأخبار في بعض ما أوردناه وشرحناه، لزم الرجوع إليهم، والأعتماد في تصحيح الأخبار ـ بعد الله ـ عليهم. على أنّ الأخبار الدالة على جواز ما منعه المانعون أكثر مورداً، وأوفر عدداً، وأقرب إلى ظاهر الكتاب والسنة وكلام الأصحاب. وفقنا الله وإياكم لأدراك حقائق الأمور، والتوفيق للسعادة يوم النشور، وجعلنا من المتمسكين بالعروة الوثقى، والمتشوقين إلى دار الآخرة التي هي خير وأبقى، والله ولي التوفيق، وبيده أزمة التحقيق.
الفصل الثالث : في بيان الميزان التي يرجع إليها إذا تشابهت الأمور
وهي ما عليه الصحابة والتابعون، وما أجمع عليه المسلمون. قال الله تعالى: ((ومن يتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى)) (1) وقال: ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت )) (2). وعن إبن عمر، أنه قال: لا تجتمع أمتي ـ أو قال: (أمّة محمّد) ـ على ضلال. ويد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار، رواه الترمذي (3). وعن إبن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إتبعوا السواد الأعظم، فأنه من شذّ شذ في النار (4). وعن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فأن الشيطان مع الفرد، وهو من الأثنين أبعد (5). وعن أسامة بن شريك (6)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أيما رجل يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه، رواه النسائي (1).
____________
(1) القرآن الكريم: 4/115 (سورة النساء). (2) القرآن الكريم: 33/33 (سورة الأحزاب). (3) سنن الترمذي (كتاب الفتن) ـ باب ما جاء في لزوم الجماعة ـ . (4) مسند أحمد بن حنبل: 4/383. (5) سنن الترمذي، حديث 2165. (6) أسامة بن شريك الثعلبي الذبياني، كان من الصحابة، سكن الكوفة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله أجاركم من ثلاث خلال، وعدّ منها: أن تجتمعوا على الضلال (2). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما إجتمعت أمتي على الخطأ (3). وقال علي عليه السلام: في بعض خطبه: عليكم بالسواد الأعظم، وإن الشاذة للذئب (4). وعن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصحابي كالنجوم بأيّهم إقتديتم إهتديتم. وعن رزين، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سألت ربي عن اختلاف أصحابي، فأوحى إليّ: إنّ أصحابك بمنزلة النجوم. بعضها أقوى من بعض، ولكلّ نور، فمن أخذ بما هم عليه من اختلافهم، فهو عندي على هدى (5). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها هلك (6). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو سلك الناس وادياً، وسلك الأنصار وادياً أو شعباً، لسلك وادي الأنصار (7). وعن زيد بن أرقم (، قال: قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً، فقال: أيّها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: كتاب الله فيه الهدى، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، رواه مسلم (9). وعن جابر (10)، قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حجه يخطب، فسمعته يقول: يا أيّها
____________
(1) سنن النسائي (كتاب تحريم الدم)، حديث 3957؛ وصحيح مسلم: 3/1479. (2) سنن أبي داود، حديث 4253. (3) سنن ابن ماجه، حديث 3950. (4) نهج البلاغة، الخطبة (127). (5) كنز العمّال: 1/181، حديث 917. (6) مستدرك الحاكم: 3/150. (7) صحيح مسلم، حديث 135. ( زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، أقام بالكوفة أيام المختار، وتوفي فيها سنة 66هـ، وقيل سنة 67هـ / 687م. (9) صحيح مسلم (فضائل الصحابة)، حديث 4425؛ ومسند أحمد بن حنبل، (مسند الكوفيين)، حديث 8464؛ وسنن الدارمي (فضائل القرآن)، حديث 3182. (10) جابر بن عبدالله الأنصاري، توفي سنة 78هـ / 697م، عن (94) عاماً.
الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، رواه الترمذي (1). وقريب منه ما رواه زيد بن أرقم (2). وعن حذيفة، عن النبي صلّى الله عليه وآله: إقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر (3). وعن جبير بن مطعم (4)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنّ إمرأته قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن لم أجدك فإلى من أرجع، فقال: إئت أبا بكر (5). وعن إبن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وضع الحق على لسان عمر يقول به (6). وعن أبي داود، عن أبي ذرّ، قال: إنّ الحق وضع على لسان عمر يقول به (7). وعن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال: لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب (. وعن سعد بن أبي وقاص أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام: أنتّ مني بمنزلة هارون من موسى (9). وعن عبدالله بن عمرو (10)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء، من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ، رواه الترمذي (11). وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اللهم أدر الحقّ مع علي حيث ما دار، رواه الترمذي (12).
____________
(1) سنن الترمذي (باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، حديث 3786. (2) أيضاً، حديث 3788. (3) أيضاً، حديث 3662. (4) جبير بن معطم بن عدي القرشي النوفلي، توفي سنة 59هـ / 260م. (5) سنن الترمذي، حديث 3676. (6) أيضاً، حديث 3682. (7) أيضاً، حديث 3686. ( سنن الترمذي، حديث 3686. (9) المصدر السابق، حديث 3731. (10) هو ابن عمرو بن العاص السهمي القرشي، صحابي، أقام في مصر، وتوفي في الطائف سنة 63هـ / 683م. (11) سنن الترمذي، حديث 3801؛ وسنن ابن ماجه (المقدمة)، حديث 152. (12) سنن الترمذي (كتاب المناقب)، حديث 3647.
وعن عمار، أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سلك الناس طريقاً، وسلك علي غيره، فأسلك طريق علي عليه السلام. وعن إبن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً. إلى أن قال: فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على إثرهم، وتمسكوا بما استعطعتم من أخلاقهم وسيرتهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، رواه رزين (1). وعن عرباض بن سارية (2)، قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظ ثم قال: إنه من يعيش منكم بعدي فسيرى إختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فأن كل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، (رواه أحمد، وغيره) (3). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه: من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية (4). وعن الحارث الأشعري (5)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من خرج عن الجماعة قدر شبر، فقد خلع ربقة الأسلام من عنقه. وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ من فارق الجماعة قدر شبر مات ميتة جاهلية (6). وعن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أمته تفترق ثلاث وسبعين فرقة، وليس فيها ناج سوى واحدة، فسئل عنها، فقال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي (7). إلى غير ذلك من الأخبار.
____________
(1) صحيح مسلم: 4/1962. (2) عرباض بن سارية السلمي الحمصي، صحابي، اقام في الشام، وتوفي سنة 75هـ / 694م. (3) مسند أحمد بن حنبل (مسند الشاميين)، حديث 16692، 16694، 16695؛ وسنن الدارمي، (المقدمة)، حديث 95؛ والترمذي (كتاب العلم)، حديث 2600؛ وابن ماجه (المقدمة)، حديث 42، 43. (4) وفي النسخة المطبوعة ورد الحديث كالآتي: ((من مات، ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)). صحيح مسلم (كتاب الأمارة)، حديث 3441. (5) هو الحارث بن الحارث الأشعري، صحابي، أقام في الشام. (6) مسند أحمد بن حنبل (مسند الشاميين)، حديث 16718 (ضمن حديث طويل)، وحديث 17344. (7) سنن الترمذي (كتاب الأيمان)، حديث 2565.
ومقتضى ذلك أنه من اللازم الرجوع الى سيرة الصحابة وطريقتهم، وانها الميزان إذا اشتكلت علينا الامور، وتعارضت علينا الأدلة، وسيتضح أن جميع ما ينكر من هذه الأفعال الموردة صادرة عن الصحابة، وطريقتهم مستمرة عليه، مع أن في السنة ما يدل على جوازه. وما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الأسلام بدأ غريباً وسيعود غريبا (1)، فلا ينافي ما ذكرناه، لأن فرقة الأسلام بين طوائف الكفر كنقطة في بحر. وروى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنتم في الناس إلاّ كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود (2). وعوده غريباً في أيام الدجّال، ونحوه يكفي في صدق الخبر. وروى عبدالله بن مسعود (3) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، رواه مسلم (4). وعن أبي سعيد الخدري (5) عن النبي أنه قال: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الدنيا الله (6). وكل ما صدر في زمان الصحابة من الأعراب بمحضر منهم ولم ينكروه، فهو موافق لرضاهم، وإلاّ لأنكروه. ولهذا أوردنا في هذه الرسالة كثيراً مما صدر في زمانهم من غيرهم. وعلى كل حال، فلا كلام في أنّ الأدلة فيها عام، وفيها خاص، وفيها ناسخ، وفيها منسوخ، وفيها مجمل، وفيها مبيّن، وفيها مطلق، وفيها مقيّد، ومنها قطعي الصدور ظني الدلالة، ومنها قطعي الدلالة ظني الصدور، ومنها ظنيهما، ومنها قطعيهما. ومن جهة إختلاف السند: منها صحيح، وضعيف، وحسن، وموثّق، وقوي إلى غير ذلك. فإذا تعارضت الأدلة، فلابدّ من النظر الى المرجحات: من جهة السند، أو من جهة
____________
(1) صحيح مسلم، حديث 145. (2) صحيح البخاري (كتاب تفسير القرآن)، حديث 4464؛ وصحيح مسلم (كتاب الأيمان)، حديث 327؛ ومسند أحمد بن حنبل (باقي مسند المكثرين)، حديث 10892. (3) في صحيح مسلم ورد إسم عبدالله بن عمرو بن العاص. (4) صحيح مسلم (كتاب الأمارة)، حديث 3550. (5) في المصادر ((أنس بن مالك)). (6) مسلم (كتاب الأيمان)، حديث 211؛ والترمذي (كتاب الفتن)، حديث 2133؛ ومسند أحمد (باقي مسند المكثرين)، حديث 11632. وزاد في المصادر كلمة (الله) مرّة ثانية في نهاية الحديث.
الدلالة، أو من جهة سبك العبارة، أو من جهة كثرة الرواية، أو من جهة شهرة الفتوى، أو من جهة موافقة الأصول ومخالفتها، أو من جهة موافقة العمومات ومخالفتها، أو من جهة موافقة الكتاب وعدمها، الى غير ذلك. فاذا فقدت المرجحات، وقامت الحيرة، فلا يبقى مدار إلاّ على سيرة الأصحاب، وطريقتهم، والنظر إلى ما هم عليه صاغراً عن كابر، وما عليه الأول والآخر. وما نحن عليه اليوم من طريقة القوم أكثر الروايات موصلة إليه، وطريقة الأصحاب والصحابة مستمرة عليه، وقد ذكرت منها قليلاً من كثير ليعلم حال السلف، ويرتفع الأنكار على خلفهم. فيا أخي فوحقّ من رفع السماء، وبسط الأرض على الماء، إني لمّا أحببتك لمكارم أخلاقك، وحسن سيرتك مع الناس، وإرفاقك، أخشى عليك من سراية القدح إلى المشايخ الكبار، (1) والعلماء الأبرار، الذين هم للشارع نواب، ولأبواب الشرع بواب (2)، عصمنا الله وإياكم، وكفانا شرّ الجهل وكفاكم، والله الموفق. وأما المقاصد فثمانية:
المقصد الأول : في تحقيق ضروب الكفر
وأقسامه كثيرة: أولها: كفر الأنكار بإنكار وجود الأله، أو إبات أنّ غير الله هو الله، أو بأنكار المعاد، أو نبوة نبينا أشرف العباد. ثانيها: كفر الشرك بإثبات شريك للواحد القهار، أو في النبوة للنبي المختار. ثالثها: كفر الشك، بالشك في إحدى الثلاثة التي هي أصول الأسلام في غير محل النظر، ولا عبرة بالأوهام (3).
____________
(1) في المطبوع: من حمل راية القدح في المشايخ الكبار. (2) في نصّ مخطوطة العبقات: ((لمدائن الشرع أبواب)). (3) في المطبوع زيادة عبارة: ((التي هي كخيالات المنام)).
رابعها: كفر الهتك لهتك حرمة الدين، بالبول على المصحف، أو في الكعبة، أو سب خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم. خامسها: كفر الجحود، بأن يجحد باللسان أصول الإسلام، ويعتقدها بالجنان، قال تعالى: ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)) (1). سادسها: كفر النفاق، بأن ينكر في الجنان، ويقرّ باللسان، كما قال تعالى: ((ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين)) (2). سابعها: كفر العناد، بأن يقر بلسانه، ويعتقد بجنانه، ولم يدخل نفسه في ربقة العبودية، بل يتجرأ على الحضرة القدسية، كأبليس (لعنه الله). ثامنها: كفر النعمة، بأن يستحقر نعمة الله، ويرى نفسه كأنه ليس داخلاً تحت منّة (3) الله. تاسعها: كفر إنكار الضروري (4). عاشرها: إسناد الخلق الى غير الله على قصد الحقيقة. وليست جميع المعاصي العظام مخرجة عن الإسلام، فأنّ المعاصي لا تنفك على الدوام، حتى في مبدأ حدوث الأسلام، ولذلك وضعت الحدود والتعزيزات، وأقيمت الأحكام على ممر الأوقات. نعم قد يطلق على كثير منها إسم (الكفر) تعظيماً للذنب، وتحذيراً منه، وتشبيهاً لمؤاخذته، لعظمها بمؤاخذة الكفر. فهو إذن في الشرع قسمان: كفر صغير، لا يخرج عن إسم الأسلام. وكبير مخرج عن إسمه بلا كلام. ولو بنينا على أنّ كلّ ما أطلق عليه إسم الكفر يكون مكفراً، لم تنج إلاّ شرذمة قليلة من الورى. فأطلاق إسم الكفر قد يكون إستعظاماً للذنب ـ كما مرّ ـ ، وقد يراد أنه ربما إنجرّ بالأخرة الى ذلك. كما ورد في الحديث: إنّ في قلب المؤمن نكتة بيضاء، فاذا عصى
____________
(1) القرآن الكريم: 27/14 (سورة النمل). (2) القرآن الكريم: 2/8 (سورة البقرة). (3) في المطبوع: نعمة. (4) في المطبوع: الأنكار للضروري.
الله إسودّ منها جانب، وهكذا إلى أن يتم سوادها، فذلك الذي طبع الله على قلبه(1). ومما يدل على أن لفظ (الكفر) يطلق على سائر المعاصي كثيراً في كلام الشارع منها: ما رواه أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا دين لمن لا عهد له (2). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن (3). وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن علامة النفاق الكذب، وسوء الخلق، والخيانة (4). وعن عبدالله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ النفاق عبارة عن أربع: الخيانة، والكذب، والغدر، والفجور (5). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن المرآء في القرآن كفر (6). وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يترك (7) حضور الجماعة إلاّ منافق (. وعن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه (9). وعن عبدالله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الرقي والتمائم من الشرك (10). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من قال: مطرنا بكوكب كذا، فهو كافر (11).
____________
(1) الموطأ (باب الكلام)، باب (18). (2) مسند أحمد بن حنبل: 3/135، 154، 210، 251. (3) صحيح البخاري (كتاب الأشربة)، حديث 5256؛ وصحيح مسلم (كتاب الأيمان)، حديث 86؛ والنسائي (كتاب قطع السارق)، حديث 4787. (4) صحيح مسلم، حديث 107. (5) أيضاً، حديث 106. (6) سنن أبي داود (كتاب السنّة)، حديث 4؛ ومسند أحمد بن حنبل (الباب الثاني)، حديث2، 258، 286. (7) في المطبوع: يفوّت. ( صحيح مسلم: 1/451. (9) البيهقي: 10/187. (10) المستدرك للحاكم: 4/217. (11) صحيح مسلم: 1/84.
وعن زيد بن خالد (1)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه من قال: مطرنا بنوء كذا، فهو كافر (2). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أتى حائضاً أو امرأته في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمّد، رواه الدارقطني، وابن ماجة، والترمذي (3). وروى عن عمر بن لبيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الرياء الشرك الأصغر (4). وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الرياء الشرك الخفي (5). وعن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ يسير الرياء شرك. وعن شداد بن أوس (6)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من صلّى برياء (7)، فقد أشرك، ومن صام برياء، فقد أشرك، ومن تصدّق برياء، فقد أشرك. وروي: إنّ تارك الصلاة كافر (، إلى غير ذلك. بل قلّما يسلم شيء من المعاصي من إطلاق إسم الكفر، فلا تبقى ثمة حدود ولا تعزيرات، ولزم الحكم بالأرتداد، وكفر العباد، ولا ينجو من الكفر إلاّ قليل من الأحياء والأموات، ولنادت الخطباء بذلك على رؤوس الأشهاد، ولشاع ذلك في أقاصي البلاد، مع أن المعهود من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين معاملة الناس على الأكتفاء بأظهار الشهادتين. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا الشهادتين. وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحنّاء، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: يتشبّه بالنساء، فنفاه إلى (البقيع)، فقيل: يا رسول الله ألا تقتله؟ فقال: نهيت عن قتل المصلّين.
____________
(1) زيد بن خالد الجهني المدني، أبو عبدالرحمن، صحابي، أقام بالكوفة، وتوفي في المدينة سنة 68هـ / 687م. (2) صحيح مسلم (باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء). (3) سنن ابن ماجه: 1/209، حديث 639، وسنن الترمذي: 1/243. (4) مسند أحمد بن حنبل: 5/428. (5) ابن ماجه: 2/1406، حديث 4204. (6) شدّاد بن أوس بن ثابت الخزرجي، توفي سنة 58هـ/678م عن (75) عاماً. (7) في المطبوع: ((وهو يرائي)). ( سنن ابن ماجه: 1/342.
وروى عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ قتال المسلمين كفر (1). وعن إبن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن نسبة المسلم الى الكفر كفر (2). وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم (3). وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فأن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله (4). وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله (5). الى غير ذلك من الأخبار. وليس غرضي أنه لا طريق للكفر سوى ذلك، ولكن يستفاد منها أنه بعد إظهار الشهادتين يبنى على الإسلام ما لم يعلم شيئاً ينافيه، ولا حاجة الى التجسس، بل نهى الله تعالى عنه. وبيان الأمر على التحقيق: هو أنه قد علم أنّ لسان الشارع جارٍ على نحو لسان العرب، ففيه حقائق، ومجازات، وإستعارات، وكنايات، وخطابات، تشتمل على المبالغات، كما أنّ لساننا يشتمل على ذلك من غير إنكار، فأنّ الذنب إذا صدر من شخص وأردنا إستعظامه، صحّ لنا أن نسمّيه كفراً، وأن نسمي فاعله كافراً. ولا يزال ذلك يقع على مرور الأزمان من أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الآن، مع أنه ليس في ذلك إنكار، بل قد يعدّ من أفعال الأبرار، على أنّ كلّ من صدر منه ذنب ولو صغير، لم يف بجزاء نعم اللطيف الخبير. فأطلاق الكفر لعله من باب الكفر ببعض النعم الذي هو كفر صغير. على أنّ أنظار الأنبياء والأولياء ليس الى المعاصي، حتى يكون فيها صغير وكبير، بل إلى من عصاه الناس وهو اللطيف الخبير.
____________
(1) صحيح مسلم: 1/81. (باب بيان قول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). (2) صحيح مسلم: 1/79. (باب بيان حال ايمان من قال لأخيه المسلم يا كافر). (3) مسند أحمد بن حنبل: 2/465. (4) صحيح مسلم: 1/53، حديث 36. (5) النسائي (باب المناسك)، حديث 211.
فإذا لاحظت أنّ المعصية كانت في حق الله، تجدها ـ ولو صغرت ـ أكبر من الجبال الرواسي، حتى أنه بلسان الورع والتقوى دون الفقه والفتوى، ربما لا يفرق بين الصغائر والكبائر. بل ربما نقل عن بعض الأولياء أنه لا فرق بين المكروه والحرام، والمسنونات وفرائض الأحكام، قال: لأنّ الكلّ مطلوب للملك العلام. وإذا بني على هذا إستحسن هذا الاطلاق، وحسن إطلاق إسم المعاصي والمحرمات على فعل المكروهات، والفرائض والواجبات على فعل المستحبات والمندوبات، وكبائر الخطيئات على صغائر التبعات، والكفر والكفار على كل من عمل ما يوجب دخول النار. ولولا ذلك للزم كفر أكثر من في الأرض، لأنّه قلّما خلت معصية من هذا الغرض، ولو علمنا بجميع ظواهر الأخبار، لاختلت علينا أحكام ملّة النبيّ المختار، وفقنا الله واياك، وهدانا الله إلى الحق وهداك (1).
المقصد الثاني : في تحقيق معنى العبادة
لا ريب أنه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلاّ لله، ومن أتى بها لغير الله، فقد كفر مطلق الخضوع والخشوع والانقياد، كما يظهر من كلام أهل اللغة، وإلاّ لزم كفر العبيد والأجراء، وجميع الخدام للأمراء، بل كفر الأبناء في خضوعهم لللآباء، وجميع من تواضع للإخوان، أو لأحد من أصحاب الأحسان. وإنما الباعث على الكفران، الأنقياد لبعض العباد مع إعتقاد إستحقاقهم ذلك بالأستقلال من دون توجه الأمر من الكريم المتعال، وأنّ لهم تدبيراً واختياراً. ولفظ (العبد) و (العبادة) قد يطلق على مطلق المطيع والطاعة، فقد ورد: أنّ العاصي عبد الشيطان، وإنه عبد الهوى. وإن الأنسان عبد الشهوات، وإنّ من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده. ثم من إتبع قول قائل لأنه مخبر عن غير، فهو عابد للمخبر عنه، لا للمخبر. ومن خدم شخصاً بأمر آمر، فالمعبود هو الآمر، ومن تبرّك بشيء لأمره، كان ذلك من عبادة الآمر. فالملائكة في سجودهم لآدم، ويعقوب في سجوده ليوسف، والناس في تقبيلهم
____________
(1) في المطبوع: وفّقنا الله وإياكم، وهداك إلى الحق المبين.
للحجر الأسود والأركان، لم يعبدوا سوى من أمرهم بذلك. ثم السجود والخضوع لعروض بعض الأسباب، لا ينافي الأخلاص لربّ الأرباب. روى أبو داود والترمذي، عن عكرمة، قال: قيل لأبن عباس: ماتت (فلانة)) ـ بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، فخرّ ساجداً، فقيل له: تسجد في هذه الساعة؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رأيتم آيةً فاسجدوا، وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1). فعلى هذا لو سجد من رأى ميتاً أو، قبراً، أو شيئاً عجيباً، ذاكراً لعظمة الله ـ كما يصنعه بعض العارفين ـ لم يكن به بأس. وعبادة الأصنام وبعض الصالحين، مع نهي الأنبياء والمرسلين الذين دلّت على صدقهم المعاجز (2) والبراهين، محض عناد وخلاف على رب العباد، ولو أنهم أخذوا عن قول الله ورسله، لم يكن عليهم إيراد. كما أن (السيد) لو قال لعبده: تبرك بثياب (فلان)، ونعله، وترابه، ففعل، كان عابداً للمولى. وأمّا لو نهاه المولى، أو أخذ بمجرد الظن الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً، أو الخرص (3)، لكان عاصياً مخالفاً. ألا ترى أنّ من جعل المرضعات أمهات، ليس كمن جعل المصاهرات، ومن حرم الوصيلة، والسائبة، والحام (4) ، ليس كمن حرم الجلالة (5) من الأنعام. وليس تحريم الأشهر الحرام كتحريم غيرها من باقي أشهر العام، وليس صيام آخر شهر رمضان كصيام أول شوال. كل ذلك للفرق بين الأمر والأختراع، والقول بمجرد
____________
(1) سنن أبي داود: 1/311، حديث 1197؛ وسنن الترمذي: 5/665، حديث 3891. (2) في المطبوع: المعجزات. (3) الخرص: الحدس، والكذب والأفتراء. (4) من معتقدات العرب أنّ الوصيلة من الغنم (وهي الشاة) إذا ولدت أنثى فهي لهم، واذا ولدت ذكراً ـ أوقفوه لآلهتهم، فان ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. أمّا السائبة فقد كان الرجل إذا نذر القدوم من سفر، أو الشفاء من علّة، فانّ ناقته ستكون سائبة (أي لا تستخدم للانتفاع بها، ولا تخلّى عن ماء، أو تمنع عن مرعى). والحام هو الذكر من الأبل اذا اانتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قال العرب قد حمى ظهره، فلا يحمل عليه. وقد حرّم القرآن هذه المعتقدات كما ورد في سورة المائدة، آية (103) قوله تعالى: ((ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون)) . والبحيرة هي الشاة التي تبحر أذنها (أي تشق) علامة على تحريم الانتفاع بها. (5) الحيوان الجلال: هو الذي يأكل العذرة، وقد ورد النهي عن أكل لحمه، وشرب لبنه.
الأبتداع (1). ثم (العبادة) تختلف بأختلاف النيّات، فمن قصد حقيقة العبادة إختراعاً وابتداعاً، ومخالفة لأمر الله سبحانه كان كافراً، سواء قصد القرب إلى الله زلفى أو لا، بل هذا في الحقيقة عين العناد والشقاق بعد نهي الأنبياء والرسل. كما قال قوم (شعيب) له: ((يا شعيب أصلاتك تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)) (2). وقال الصدّيق: ((يا صاحبي السّجن أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهّار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم)) (3). وحكى الله عن قوم نوح وعاد وثمود أنّهم ردّوا أيديهم في أفواههم، وقالوا: ((إنّا كفرنا بما ارسلتم به وإنا لفي شكّ ممّا تدعوننا إليه مريب)) (4) الى غير ذلك من الآيات الدالة على ردّهم على الأنبياء، وبنائهم على الأختراع والأبتداع. وفي الأحتجاج: في حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أقبل في مشركي العرب، فقال لهم: وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله؟ فقالوا: نتقرب بها الى الله زلفى، فقال: أو هي سامعة مطيعة عابدة لربها حتى تتقرّبوا بها إلى الله؟ قالوا: لا، قال: أفأنتم نحتموها بأيديكم؟ فقالوا: نعم، قال: فلئن تعبدكم هي أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العالم بمصالحكم، وعواقبكم، والحكيم فيما يكلّفكم (5). فإذا كان الله قد نهى على لسان أنبيائه عن عبادة الأصنام والصالحين من الأنام، على نحو عبادة الصلاة والصيام، ففعلهم بعد ذلك رد لكلام العليم العلام. وكشف الحيققة: إنّ العبادة إن أريد بها مجرد الأمتثال والطاعة، كانت الزوجة، والأمة، والعبد، والخادم، والأجير، ونحوهم، عابدين لغير الله. وإن أريد الأمتثال والأنقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة، لا بواسطة أمر غيره،
____________
(1) في المطبوع: للفرق بين الأمر والاتباع، والقول بمجرد الأختراع والأبتداع. (2) القرآن الكريم: 11/87 (سورة هود). (3) القرآن الكريم: 12/39 ـ 40 (سورة يوسف). (4) القرآن الكريم: 14/9 (سورة إبراهيم). (5) أوردها أحمد بن علي الطبرسي (من علماء القرن الخامس الهجري) في كتاب الاحتجاج: 1/26.
فأين ذلك من أفعال المسلمين. فأقسم عليك بمن سلّطك على طائفة من عباده، ومكّنك من كثير من بلاده، أن تخلّي نفسك من حب الأنفراد، الباعث على الأمتياز بين العباد، وتحذر من قولهم. ((لكل جديد لذّة))، و((خالف تعرف). كما أني أحذّر نفسي، وأصحابي من حبّ إتباع الآباء والأجداد، وإرادة الدخول في الجماعة، وكراهة الإنفراد. وأمّا ما صدر من أهل الإسلام، فإنّما هو عن أمر زعموه، فأن كان حقاً أثيبوا، أو كان خطأ فكذلك. فأين حال المسلمين من حال من جعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، واتخذ الملائكة أربابا، واتخذ بعض المخلوقين أنداداً وشركاء، يعبدون من دون الله أو مع الله، إمّا لأهليتهم، أو لترتب التقرب الى الله زلفى من دون أمر الله لهم بذلك، قال تعالى: ((ما أنزل الله بها من سلطان)) (1). وروي أنّ (قريشاً) كانوا يعبدون الأصنام، ويقولون: ليقربونا الى الله، ولا طاقة لنا على عبادة الله. وسيجيء في بعض المقامات الآتية ما يكشف عن حقيقة ذلك. وإن أردت تمام الكلام في هذا المقام، فأنظر بعين البصيرة إلى ما نحاول في هذا المقام تحريره. إعلم أنّ الألفاظ اللغوية والعرفية العامّة، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة، فتلك لا تحتاج إلى بيان، سواءً وردت في السنّة أو القرآن. وأمّا إذا نقلت عن المعاني الأولية إلى غيرها، أو إستعملت في المعاني الثانوية على وجه المجازية، فهي من المجمل المحتاج الى البيان، كلفظ الصلاة والصيام والحج، فأنه لو لم يبينها الشرع لبقيت على إجمالها، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والأمساك والقصد، بل معنى جديد، تتوقف معرفته على بيان وتحديد. ومن هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما، فأنه لا يراد بهما في لحوق الشرك بهما المعنى القديم، وإلاّ للزم كفر الناس من يوم آدم إلى يومنا هذا. لأنّ العبادة بمعنى الطاعة، والدعاء بمعنى النداء والأستغاثة للمخلوق لا يخلو منها أحد. ومن أطوع من العبد لسيده، والزوجة لزوجها، والرعية لملوكها، ولا زالوا ينادونهم،
____________
(1) القرآن الكريم: 12/40 (سورة يوسف).
ويطلبون إعانتهم ومساعدتهم، بل الرؤساء لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم ويندبونهم. فعلم أنّه لا يراد بهذه المذكورات، المعاني السابقات، وتعيّن إرادة المعاني الجديدة، فصارت بذلك من المجملات والمتشابهات، فلا يجوز الحكم بمقتضاها، إلاّ في الموضع المعلوم دون المشكوك والموهوم. وإنّما هو خطاب الوضيع لمن شأنه رفيع، على أن يكون ملك التصرف، أو خدمته الخاصة لرفعته الذاتية، وشرافته الأصيلة، من دون أمر آمر، ولا تكليف مكلف، بل من مجرد الأبتداع والأختراع. وأما ما كان عن أمر آمر، فالمعبود هو الآمر، ولا فرق بين أن يقول: ضع جبهتك في الصلاة على الأرض، أو على بدن إنسان، أو غير ذلك، وبين أن يقول: ضعها على (قبر) كذا، أو (حجر) كذا. وإنّما كفّر عبدة الأصنام، لأنهم فعلوا ما يعدّ عبادةً من دون أمر الله، ولأنهم خالفوا أنبياء الله في نهيهم عن تلك الأشياء، فكانت قصد تقربهم فيما نهى الله عنه. إمّا بناء على أن الأصنام للجبار قاهرون، فيقربونهم قهراً، أو كان إستهزاءً بالرسالة، وتكذيباً لهم، وكل من الكفرين أعظم من الآخر، فأنّ المتقربين محصّل كلامهم أنّا نخالف أمر الله، وأمر رسوله ونعبد ما نهينا عن عبادته ليقربنا إلى الله.
المقصد الثالث: في الذبح لغير الله
لا يشك أحد من المسلمين في أنّ من ذبح لغير الله ذبح العبادة (كما يذبح أهل الأصنام لأصنامهم حتى يذكروا على الذباءح أسماءهم، ويهلون بها لغير الله) ـ خارج عن ربقة المسلمين، سواء إعتقدوا آلهيتهم، أو قصدوا أن يقربوهم زلفى، لأنّ ذلك من عبادة غير الله تعالى. وأما من ذبح عن الأنبياء أو الأوصياء، أو المؤمنين ليصل الثواب إليهم، كما يقرأ القرآن ويهدى إليهم، ونصلي لهم وندعو لهم، ونفعل جميع الخيرات عنهم، ففي ذلك أجر عظيم، وليس قصد أحد من الذابحين للأنبياء أو لغيرهم سوى ذلك.
أما العارفون منهم، فلا كلام. وأمّا الجهّال، فهم على نحو عرفائهم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذبح بيده، وقال: اللّهم هذا عنّي، وعن من لم يضح من أمتي. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي (1). وفي سنن أبي داود أنّ علياً كان يضحّي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكبش، وكان يقول: أوصاني أن أضحي عنه دائماً (2). وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصاني أن اضحي عنه (3). وعن بريدة، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن إمرأةً سألته هل تصوم عن أمّها بعد موتها؟ وهل تحج عنها؟ قال: نعم (4). وعن إبن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: تقضي البنت نذر أمّها (5). وروي أنّ العاص بن وائل أوصى بالعتق فسأل إبنه عمرو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن العتق له، فأمره به. وروي عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عند الذبح: اللّهم تقبل من محمّد، وآله، وأمته. والحاصل لا كلام ولا بحث في أنّ أفعال الخير تهدي إلى الموتى، ومن أولى بالهدايا من أنبياء الله وأوصيائه، فليس الذبح لهم وبأسمهم، حتى يكون الأهلاك لذكرهم، وإنما ذلك عمل يهدي إليهم ثوابه كسائر الأعمال، حتى أنّه لو ذكر إسمهم على الذبيحة، كان ذلك عند المسلمين منكراً، فهو ذبح عنهم لا لهم. وإني ـ والذي نفسي بيده ـ منذ عرفت نفسي إلى يومي هذا، ما رأيت، ولا سمعت أحداً من المسلمين ذبح أو نحر، ذاكراً لأسم نبي، أو وصي، أو عبد صالح، وإنّما يقصدون إهداء الثواب إليهم، فإن كان في أطرافكم قبل تسلّطكم مثل ذلك، (فصاحب الدار أدرى بالذي فيها). ولا شك أنّ نجداً وأعرابها قبل أن تظهروا فيها أمر الصلاة والصيام، وتأمروهم بالملازمة
____________
(1) مسند أحمد بن حنبل: 3/356؛ وسنن أبي داود: 3/99، حديث 2810؛ وسنن الترمذي: 4/77، حديث 1505. (2) سنن أبي داود: 3/94، حديث 2790. (3) مسند أحمد بن حنبل: 1/150. (4) صحيح مسلم: 2/805، حديث 1149. (5) سنن ابن ماجه: 2/904.
لعبادة الملك العلام، كانوا كالأنعام أو أضلّ سبيلاً، وقد رفع الله عنهم الشقاق، وحصل بينهم الاتفاق، وفرّقوا بين الحلال والحرام، وتوجهوا لأوامر الملك العلام. ويؤيد ذلك ما رواه إبن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اللّهم بارك لنا في شآمنا، الله بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا، فقال: اللّهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا، ثم قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: هناك موضوع الزلازل والفتن، وبها (مطلع) قرن الشيطان، رواه البخاري (1). وإلحاق غير أهل (نجد) بهم من قياس الشاهد على الغائب. وكيف يخفى على فحول العلماء، وأساطين الفقهاء الذين أقاموا الجمعات والجماعات، وأقاموا الأحكام، وأوضحوا الشبهات، وأمعنوا نظرهم في فهم الآيات والروايات، أنّ الذبح لا يكون إلاّ لجبّار السموات؟ مع أنّ ذلك تلقّاه عن الأكابر الأصاغر، وعن الأوائل الأواخر. فلم يزل أهل الأسلام من قديم الأيام يذبحون للأنبياء والأوصياء والعباد الصالحين، ويهدون الثواب إليهم طلباً لمرضاة رب العالمين. وإختيارهم للأماكن الشريفة، كحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحوه، لما ورد من أنّ الأعمال يتضاعف أجرها لشرف الزمان والمكان، كشرف الكوفة. روى الأصبغ بن نباتة (2) عن أمير المؤمنين عليه السلام أن الخضر قال له: إنّك في مدينة لا يريدها جبار بسوء إلاّ قصمه الله. وروي أنّ البركة فيها على إثني عشر ميلاً من سائر جوانبها. وإن المسلمين كافة يتبرؤون ممن يدعو غير الله، أو يستغيث بغير الله، أو يذبح وينحر لغير الله، أو يحلف بغير الله، على النحو الذي وقع في نظركم أنهم يقصدونه ويتعمدونه، ومعاذ الله أن يكونوا كذلك. والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لو علمت منهم ذلك، لكفرتهم، وهاجرت عنهم، معتقداً وجوب ذلك عليّ، لكن وحقّ من إشتقّ من ظلمة العدم نور الوجود، ما وجدت ذلك منهم، ولا صدر ذلك عنهم، ولا بأس عليكم فربّما إفترى الحاضرون لديكم تقرباً بذلك إليكم، فأقتصر على حدودك التي أنت فيها، فأنّ النفس إذا قنعت، قليل من الدنيا يكفيها.
____________
(1) صحيح البخاري: ج9 (باب الفتن)، حديث16؛ وسنن الترمذي (كتاب المناقب)، حديث 73. (2) الأصبغ بن نباتة المجاشعي التميمي الكوفي، توفي أوائل القرن الثاني الهجري.
وفي المشكاة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم (1). وبعد التأمل الصادق لا نجد ـ عند من شاهدناه ممن يدعي وينتسب إلى ملّة سيد الأنام ـ ذبحاً، ولا نحراً، ولا نذراً، ولا عتقاً ولا تصدقاً، ولا وقفاً، ولا شيئاً من العبادات مما يتعلق بالماليات أو البدنيات، ولا توسلاً، ولا تقرّباً، إلا إلى جبّار الأرضين والسماوات، ولو أعلم ذلك منهم قبلت كلمة الأسلام الصادرة عنهم. فمهلاً يا أخي مهلاً مهلاً، فأن القوم ليس حالهم كما وصل إليكم، وورد عليكم، فإني بهم خبير، وبأحوالهم بصير، وليس غرضي تزكيتهم، ولكن ـ والله ـ هذا الذي علمته من سيرتهم، والله الموفق.
المقصد الرابع في النذر لغير الله
هذا المقام من مزال الأقدام، وإنما كثرت فيه الأقاويل، لخفاء الموضوع إلاّ على القليل، فإنّه لا ينبغي الشك في أنّ النذر لغير الله على أنه أهل لأن ينذر له، لأنه مالك الأشياء وبيده زمامها من الكفر والشرك، لأنّ النذر من أعظم العبادات، وإن اريد أنه ينعقد بذلك وإن لم يذكر إسم الله عليه فهي مسألة فقهية فرعية. واعتقاد ذلك لا عن دليل تشريع حرام، لا يخرج عن ملة الأسلام. وليس المعروف في هذه البلدان النذر لغير الله إلا على معنى انه صدقة يهدى ثوابها إلى أولياء الله، فمعنى النذر للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً أنه صدقة منذورة يهدى ثوابها له، وهكذا النذر لسائر الأولياء. فلا يزيد هذا على من نذر لأبيه وأمّه، أو حلف، أو عاهد أن يتصدق عنهم، كما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال للبنت التي نذرت لأمّها عملاً: ف بنذرك (2).
____________
(1) صحيح البخاري (كتاب المغازي)، حديث 17؛ و(كتاب الجهاد)، حديث 38؛ وصحيح مسلم (كتاب الزكاة)، حديث 121؛ وسنن ابن ماجه (كتاب الفتن)، حديث 18؛ ومسند أحمد بن حنبل، الباب الخامس، حديث 48. (2) صحيح البخاري (كتاب الاعتكاف)، حديث 5، 6، 16؛ وصحيح مسلم (كتاب الأيمان)، حديث 27؛ سنن أبي داود (كتاب الأيمان)، حديث 22؛ سنن الترمذي (كتاب النذور)، حديث 12؛ وابن ماجه (كتاب الطلاق)، حديث 36.
فأن كان النذر للآباء والأمهات كفراً، كان هذا كفراً، وإلاّ فلا. فمن حاول بالنذر حصول الثواب والتقرب إلى الله زلفى من المنذور له، على أن يكون الفعل له لا على أن يكون الثواب له، فهو ضال مضل. وأمّا من قصد خلاف ذلك، فلا بأس عليه. واختيار بعض الأمكنة للنذور طلباً لشرف المكان، حتى يتضاعف ثواب العبادة، كما يختار بعض الأزمنة لبعض العبادات، لا بأس به، بل لا بأس بتخصيص بعض الأمكنة المباركة، وهو مستفاد من الأخبار، كما لا يخفى على من حام حول الديار. روى ثابت بن الضحّاك (1)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً سأله أنه نذر أن يذبح ببوّانة، قال: هل كان فيها وثن يعبد؟ قال: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ فقال: لا، فقال: ف بنذرك (2). ثم إني أعلم والله أنك لو وضعت منادياً ينادي في بلاد الإسلام، ويعلن بصوته في كل مقام، ليجد شخصاً يعدّ من نوع الأنسان يقصد بنذره غير وجه الملك الديّان، لرجع إليك صفر اليدين، ولم يجد ناذراً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو الصحابة، أو الحسنين عليهما السلام. وكيف يقصدونهم بنذورهم وعباداتهم مع علمهم بمماتهم؟ وإذا دخلوا إلى مواضع قبورهم قرأوا لهم القرآن، وأهدوا إليهم من صلاتهم بعض ما كان، ودعوا لهم برفعة الدرجات، وزيادة الأجر عند رب السماوات، فأن كانوا معبودين باعتقادهم، فكيف يهدون إليهم عبادة العبيد؟! ليت شعري كم من الفرق بين من يعبد ليقرّب الى الله زلفى، وبين من يعبد الله عنه ليقرّبه الله زلفى. والله ما نذرت نذور، ولا جزرت جزور، ممن يتصف بالأيمان، ويقرّ بالشهادتين بالقلب واللسان، إلا لوجه الملك الديّان، وطلباً لرضى الواحد المنان. فمن كانت هذه مقاصدهم، وعلى ذلك بنوا قواعدهم، كيف ينسبون الى عبادة غير الله، ويشبهون بعبدة الأصنام المثبتين شريكاً للملك العلام؟! ليت شعري لو أنّ الرسل جاءت بالسجود للأحجار، أو لبعض الكواكب والأشجار،
____________
(1) ثابت بن الضحّاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي الأنصاري مات سنة 45هـ / 665م. (2) سنن أبي داود (كتاب الأيمان)، حديث 22؛ سنن ابن ماجه (باب الكفارات)، حديث 18؛ مسند أحمد بن حنبل، الباب الأول، حديث 90.
لم يكن ذلك السجود إلاّ عبادة للملك الجبار، لأنّ الطاعة لللآمر لا لمن يكن له في ذلك الأظهار. ولو أنّ الناظر لصور الكواكب وهيئة الأفلاك، تدبّرها تفكّراً في عظمة الخالق، وسجد، كان عابداً لمدبرها. ثم ليس المراد بالعبادة مجرد الخضوع والتذلل، كما هو المعنى القديم، بل يراد معنى جديد، وهو التذلّل الخاص، على شرط أن يكون في كمال الصفاء والأخلاص. وعلى فرض أن يصدر من بعض أعوام المسلمين، لعدم قربهم من محال العلماء العاملين. فلا ينبغي معاملة الجميع بهذه المعاملات، والبناء على نسبتهم إلى الشرك من دون قيام البينات. فقف يا أخي في مواضع الشبهات، لئلاّ تقع في الهلكات. وإني ـ والله ـ فرح مسرور بدفعك عن أبناء السبيل كل محذور، وأمرك بالصلاة والصيام، وإنفاذ ما شرع النبي (صلى الله عليه) من الأحكام، إلاّ أني أخشى عليك أن تأخذ العالم بذنب الجاهل، والمنصف بورطة المعاند المجادل. وفقنا الله لطريق الصواب، والفوز برضاه في يوم الحساب، فأنه أرحم الراحمين.
المقصد الخامس: القسم بغير الله
لا يرتاب مسلم في أنّ القسم بغير الله، على وجه إرادة صاحب العظمة والكبرياء والملكوت والقدرة والجبروت، باعث على الخروج عن ربقة المسلمين. وأما إرادة مجرد التأكيد، فلا يلزم منه كفر ولا إشراك بديهةً، إذ ليس مدار الكفر على مجرد العبارات، ويدل على ذلك أنه قد ورد القسم بغير الله متواتراً في كلام الصحابة والتابعين، بل في كلام خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم. ففي كتاب علي عليه السلام إلى معاوية: لعمري لأن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدني أبرأ الناس من دم (عثمان) (1).
____________
(1) نهج البلاغة: 367 .
وفي كلام له آخر: وأما تحذيرك إياي أن يحبط عملي وسابقتي في الإسلام، فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لك أن تحذِّرني ذلك. وفي كتاب معاوية: فأن كنت أب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى